الشّجاعةُ هي الجرأة والثّبَات، ورباطة الجأش والإقدام على المكاره عند الضرورة، والشّجاعُ مُحبّب حتّى إلى عدُوّه، والجَبانُ مُبغّضٌ حتّى إلى أُمّه كما يقولُ المثل، ونتحدّث في هذا المقال عن شجاعة الاعتذار أو ما يُطلق عليه الشّجاعة الأدبية النّابعة من حُسن الأدب والأخلاق والاحترام والقِيم التي تدعوا صاحبها إلى الاعتذار عمّا صدر منه من تقصيرٍ وخطأ أو زلّة وهفوة في حقّ الآخرين، وهذه الشجاعة لا تقلّ أهميّة وقدراً وحُسناً وملاحة عن شجاعة الميدان، يقولُ الشاعر:
إِنَّ الـشَـجـاعَةَ في القُلوبِ كَثيرَةٌ
وَوَجَـدتُ شُـجعانَ العُقولِ قَليلا
نحن لسنا سوى بشرٍ ضعفاء نخطئ ونصيب، ونمرّ بمختلفِ الظروف والأحوال التي تؤثّر فينا وفي نفسياتنا، وقد تؤدي بنا الضّغوط إلى قولٍ وعملٍ يسبّب الإحراج والانزجاع إلى أقرب الناس إلينا وأحبّهم إلى قلوبنا، وربّما يكون هذا التّصرف كافيا لتعكير الصفو وتوتّر العلاقات، وهنا تشتدّ الحاجة إلى شجاعة الاعتذار؛ حفاظاً على علاقة الودّ والمحبّة مع الآخرين واحتراماً لمشاعرهم وجبراً لخواطرهم.
أردْتُ لِكَيــْمَا لا تُرى ليَ عَثرةٌ
ومَنْ ذَا الذي يُعْطَى الكَمَالَ فيَكمُل
الخطأ واردٌ يا أحبتي من الجميع، وقد تُخطئ أنت وقد أخْطئ أنا، وقد يُخطئ غيرنا في حقّنا، فلكلّ جواد كبوة، ولكلّ صارم نبوة، لكنّ الإصرار على الخطأ والتعنّت في الرأي والمجادلة الجافة خطأ أكبر، والعاقل الرصين هو الذي يتبادر إلى مراجعة النفس وإصلاح الحال والاستفادة من الخطأ حتى لا يتكرّر، ويُدرك أن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، وأن الاعتراف بالخطأ فضيلةٌ ورفعة، وعلامةٌ على الحكمة والنضوج:
الرّأيُ قَبلَ شَجاعةِ الشّجْعانِ
هُوَ أوّلٌ وَهيَ المَحَلُّ الثّاني
وَلَرُبّما طَعَنَ الفَتى أقْرَانَهُ
بالرّأيِ قَبْلَ تَطَاعُنِ الأقرانِ.
والاعتذار عن الخطأ من شيم الأقوياء، وخلقٌ من أخلاق العظماء، وهو اللاصق السحري لعلاج القلوب المكسورة، وإزالة الأحقاد والأدران، وكلمةُ «أعتذرُ» و «أنا آسفٌ» أو «سامحني» أو «حلّلني» وغير ذلك-إذا كانت صادقةً ونابعة من القلب- ليست مجرّد كلمات تُقال، بل ضمادٌ للجراح وبلسمٌ للقلب وشفاءٌ للعليل، وسبب لكسب القلوب، كاعتذار النابغة الذبياني إلى النعمان بن المنذر حاكم الحيرة حيثُ يشير فيه إلى حالته النفسية والقلق والاضطراب الذي لازمه، بعد أن وصل إليه نبأ لوم النعمان له وغضبه عليه:
أَتاني -أَبَيتَ اللَعنَ- أَنَّكَ لِمتَني
وَتِلكَ الَّتي أُهتَمُّ مِنها وَأَنصَبُ
فَبِتُّ كَأَنَّ العائِداتِ فَرَشنَني
هَراساً بِهِ يُعلى فِراشي وَيُقشَبُ
وقفات مع الاعتذار:
1- إذا أخطأت فاعتذر وتحمّل المسئولية، ولا تحاول تبرير المسوغات والمخارج والدلائل والحجج، فالحرّ من راعى وداد لحظة ومدّ يد الإخلاص والمحبة إلى أصحابه.
تقضي المروءة أن نمدّ جُسومنا
جسراً فقل لرفاقنا أن يَعبروا
2- تقبل عذر المخطئ في حقّك برحابة الصدر ونقاء القلب وبشاشة الوجه وصفاء السريرة، وانس الماضي ولا تأخذك عزة النفس أو التكبر بعدم قبول العذر، يقول ابن مفلح رحمه الله: «قال الحسن بن علي: لو أن رجلاً شتمني في أذني هذه، واعتذر إليّ في أذني الأخرى، لقبِلت عُذره»، «الآداب الشرعية: 1/388».
إذا اعتذر الجاني محا العذرُ ذنبه
وكلّ امرئ لا يقبل العذر مذنب.
3- الاعتذار لا يقلّل من شأن المعتذر ومكانته شيئاً، بل يزيده أجراً ومكانة عند الله تعالى، وسموّا ورفعة في عيون الناس وقلوبهم، وهو دليل على القوة ورجاحة العقل، وليس الضعف والخور أبداً. «وخَيْرُهُما الذي يَبْدَأُ بالسَّلامِ» أخرجه البخاري.
4- يصل الاعتذار إلى مرتبة الكمال والرّقي إذا صدر ممّن كان أعلى رتبة أو منزلة من يُعتذر إليه، كاعتذار الرئيس لمرؤسيه، أو الزوج لزوجته، أو المعلم لطلابه، فهو أمرٌ لا يقدر عليه إلا شجعان القلوب والعقول وأهل الهمّة والحكمة.
5- تّذكّر أن التأخير في تقديم الاعتذار من زلّة أو سقطة في حقّ الآخرين إنما هو خطأ في حقّ نفسك أولا قبل أن يكون خطأ في حقّهم.
6- الاعتذار أسلوب حضاري، يحتاج إلى صدق المشاعر، وصدق الرغبة، وصدق الإحساس، فلا تعتذر بأسلوب باردٍ، حتى لا تزيد الجرح إيلاماً والأمر تعقيداً، وقد قيل: إن الاعتذار الذي لا يليق بحجم الخطأ خطأن ثان. إذا كان وجه العذر ليس ببينّ.
شمعة أخيرة:
تقول الدراسات إن الاعتذار له تأثير كبير على الصحة النفسية والعقلية، والتخلص من الشعور بالعدوانية تجاه الآخرين، والحياة بسلامة وسعادة وراحة بال، و من وفّق لحسن الاعتذار خرج من الذنب.