أتذكر جيدا أثناء الدراسة الجامعية أنه طلبَ مني أحدُ الزملاء الأفاضل -الذي أصبحَ فيما بعد أستاذاً جامعياً مرْموقاً- أن يقرأ عليّ كتاب «ديوان الحماسة لحبيب بن أوس الطائي، أبو تمام»، وذلك لاختباره في الكتاب، فجلستُ معه بعضَ الجلسات، ثم انشغلتُ عنه بالتزامات الجامعة -حيث تزدادُ المسؤوليات وتتعاظمُ الواجبات- وإذا به يضعُ قصاصةً صغيرةً في يدي، كتبَ فيها بيتا من معلقة الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى، المسمى بحكيم الشعراء:
وَمنْ يكُ ذَا فضـلٍ فيبخلْ بفَضلـهِ
على قوْمهِ يسْتغـنَ عنـهُ وَيذْمـمِ
فما كانَ مني في تلك الفترة -وهي مرحلة الشباب المفعمة بالحيوية والنشاط- إلا أن أعلق على قصاصة الزميل -من باب الممازحة- بقول زهير كذلك:
وَمنْ يجعلِ المعرُوفَ في غيرِ أَهلـهِ
يكـنْ حمـدُهُ ذَماً عليهِ وَينـدَمِ
عموماً تضاحكت مع زميلي العزيز، ورجعَ كلّ واحد منا إلى التزاماته، وحياته الجامعية في تلك الفترة الجميلة التي كنا نحملُ فيها حزَماً منَ الدفاتر والكتب بشكلٍ يومي إلى مقاعد الدراسة، ولم يعكر صفوها الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي.
هيهات لا يأتي الزَّمانُ بمثلهِ
إنَّ الزَّمانَ بمثلهِ لبخيل
الشاهد إن موقف الزميل واستشهاده بالبيت الشعري حول تقديم النفع إلى الناس أثر في نفسي كثيرا، وكانَ سبباً لمراجعة أوراقي في التعامل مع الآخرين بالاستماع إليهم وتلبية طلبهم بحسب الظروف والإمكانيات، فجزاهُ الله عني كلّ خيرٍ وبارك فيه، وغفرَ الله لي التعليق الشبابي السريع على ورقته.
وبعد دخولي إلى الميدان الوظيفي وتعاملي مع مختلف شرائح المجتمع أدركتُ أنّ تقديم الخير إلى الغير، انتقاءٌ واصطفاءٌ من الله تعالى، وأن التوفيق لقضاء حوائج الناس وتيسير أمورهم وتطييب خواطرهم وجبر قلوبهم هبةٌ من الله تعالى يهبها لمن يحبّ من عباده، وأنّ الإحسان إليهم سواءً عرفتهم أم لم تعرفهم، هو سبب كبير لانشراح الصدر وراحة البال وزوال الهمّ ونزول البركة.
وَكلُّ سعيٍ سيجزي اللهُ ساعيهُ
هيهاتَ يذهبُ سعي المحسنينَ هبا
وأدركتُ كذلك أنّ السعادة تكمن في ابتسامة الأيتام، ودعاء الفقراء، وإسعاد المحتاجين، ومسح دموع البائسين، ومؤازرة من يحتاج إلى المعاونة والمناصرة ممن لا ترجو منهم شيئا، وأنّ لقضاء حوائج الناس لذّة لا يعرفها إلا من جرّبها، وأن المعروفَ أبقى الأعمال أثراً، وأكثرها نبلاً وأحمدها عاقبة:
وَلمْ أَرَ كالمعرُوفِ أَما مذَاقهُ
فحلوٌ وَأَما وَجهـهُ فجميلُ
وصنائع المعروف لا تذهب سدى، بل يدفع الله بها المحن والشدائد والمصائب والكربات والملمات، وفي الحديث «صنائع المعروف تقي مصارع السوء»، «السلسلة الصحيحة:4/537»، «ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته»، «صحيح البخاري:6951»، «والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه»، «صحيح مسلم: 2699».
وقد مدح النبي صلى الله عليه وسلم الأشعريين الذين كانوا يساعدون بعضهم بعضاً وقت الحاجة وكأنهم يد واحدة، فكانوا يجمعون ما لديهم من طعام، ثم يقتسمونه بينهم بالسوية فقال: «إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو، أو قلّ طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كانَ عندهم في ثوبٍ واحد، ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية، فهم مني، وأنا منهم» «متفق عليه».
وإنّ من عباد الله من سخرهم الله لنفع عباده، فتراهم يشفعون لهذا، ويمشون في قضاء حاجة ذاك، ويساعدون ثالثاً وهكذا، ولا يعرفون الكلل والملل، وكأنهم المقصودون بقول الشاعر:
تراهُ إذا ما جئته متهللا
كأنك تعطيه الذي أنتَ سائلهْ
قال الماوردي:
«ينبغي لمن يقدر على إسداء المعروف أن يعجله حذار فواته، ويبادر به خيفة عجزه، وليعلم أنه من فرص زمانه، وغنائم إمكانه. «القرطبي:5/383».
وأكرم الناس ما بين الورى رجلٌ
تقضى على يده للناس حاجاتُ
وهناك قاعدة مهمة في الإحسان إلى الناس وهي أن تفعل الخير ولا تنتظر الشكر من أحد، وأن تعطي دون مقابل، وأن يكون رضا الله سبحانه هو الغاية، قال تعالى واصفا عباده المؤمنين «إِنما نطعمكمْ لوجهِ اللهِ لا نرِيدُ منكمْ جزَاءً وَلا شكورًا»، «الإنسان: 9».
وقد قيل: «افعل الخيرَ وليقعْ حيثُ يقع فإنْ وقعَ في أهله فهم أهله وإن وقعَ في غير أهله فأنتَ أهله».
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه
لا يذهب العرف بين الله والناس.
والمعروفُ بابٌ واسعٌ وميدان شاسع يشمل القول الطيب والعمل الصالح وجمال الأخلاق وحسن التعامل وجميع المحامد والمكارم، وما يسمى «بالمراجل»، و«الموَاجيب»، في العرْف العام، فالابتسامة، والكلمة الطيبة، واحترام الكبير، والرحمة على الصغير، وحسن المعشر وإسداء النصيحة للمسلمين كل ذلك من المعروف.
* شمعة أخيرة:
ومما يتمم فعل المعروف ويجمله أن لا يرى صاحب المعروف لنفسه فضلا على من تفضل عليه، وذلك لأن الفضل كله لله تعالى، ولله درّ عمر بن عبدالعزيز عندما جاءه عبدالله بن الحسن بن الحسين في حاجة، فقال له: إذا كانت لك حاجة عندي، فأرسل إليّ رسولا أو اكتب لي كتابا، فإني أستحي من الله أن يراك ببابي. «نزهة الخاطر، سالم العجمي: 123».