تحتاج أن تدرس «حالة» وظاهرة اجتماعية دراسة علمية رصينة، وليس مجرد انطباعات وآراء لكتاب، نبحث لأننا لا نريد أن نقتل الناطور، بل نريد فعلاً عنباً وطنياً يأكل ويتلذذ به الجميع، إنما طالما بقينا نؤجل ونؤخر ونتجنب فتح الملف فالجمرة ستظل تحت الرماد، طالما جبُنّا عن مواجهة واقع مؤلم موجود خلف الستائر فإن النفخ في تلك الجمرة بين الحين والآخر ممكن أن يشعل الحريق من جديد.

الدولة في البحرين وفرت الحماية والضمانات لكل المثقفين والباحثين والأكاديميين بل وأشركتهم في صناعة القرار ورسم الاستراتيجيات الوطنية ليدلوا بدلوهم ويعلنوا عن أفكارهم في ظل حماية الدستور، والعديد من هؤلاء أعضاء في المؤسسات واللجان الوطنية، لكنهم ظلوا يعملون ويبدون آراءهم خلف الستار فقط، وإلى الآن لم يتجرأ أي منهم للحديث العلني والتصريح وحقيقة لا نعلم ما هي أسباب التأخير، ووضعهم هم الذي يحتاج أن نبحث فيه، بمعنى نتساءل ونبحث عن إجابة منطقية لم يجبُن مثقفونا عن تحمل مسؤوليتهم الوطنية؟

قضيتان فتحتا الجرح وأعادتا من جديد طرح هذا التساؤل الأولى ملف العالقات في المحاكم الجعفرية، ملف حار وساخن لم نسمع أي آراء للأكاديميين والباحثين في معضلة من معضلات التنوير وأثر الأصولية الإسلامية، بل وحتى أثر الإسلام السياسي على الحياة الاجتماعية، فأين صوتهم؟ أليس صمتهم ظاهرة وحالة تستحق البحث؟

القضية الثانية هي معايشتنا لثورة الجنوب اللبناني والعراقي على وكلاء الملالي، وأيضاً هنا لم نرَ لها صدى يحرك هذا الملف الشائك لا من أجل الانقسام ولا من أجل فتح باب الصراعات، إنما هي فرصة ثمينة تحديداً للأكاديميين والباحثين والدارسين الذين وفرت لهم الدولة كل عناصر الحماية الاجتماعية والاقتصادية، يا أخي على الأقل لدعم موقفهم المناصر للدولة، وللتأكيد على وجاهة موقفهم، فرصة ربما لن تتكرر لتنظيف هذا الجرح.

نحتاج باحثين وأكاديميين ليغوصوا في العلوم النفسية الاجتماعية والإنثروبولوجية في نفسيتهم وعقليتهم لفهم «حالتهم» وتفسيرها، إذ قد تساعدنا هذه البحوث العلمية على تحديد جذور المشكلة وتساعدنا بالتالي على إيجاد الحلول الناجعة التي تنهي قضية تكاد تكون أزلية وتنفجر بين الحين والآخر، فهم الدواء إنما إن كان الدواء بحاجة لمعالجة فما الحل؟

نحتاج أن نفهم كيف بعد كل تلك الشواهد الحية النابضة على فشل حكم الملالي وعلى فشل الوعود التي حملها «المخلص» الفقيه ومع هذا كله مازال لنظرية الولي الفقيه (معجبون) في وطننا العربي يظنون بهم خيراً، ويأملون بهم خلاصاً؟ وكيف مازالت نظرية المخلص الفقيه حية رغم كل شواهد نتائجها؟ وما هو القعر الذي -إن- وصل إليه أتباعه يمكن أن يحدث فارقاً وينجح في إشعال الضوء ليكشف واقعاً يراه العالم أجمع ويرفض أتباع هذه النظرية رؤيته؟ والأهم ما الذي ممكن أن يحرك النخبة ويمنحهم أكسير الشجاعة؟

حقيقة نريد أن نفهم، إذ تشبعنا من أبحاث تحوم حول هذا الموضوع، ولا تدخل في ثناياه، ولا تغوص في أعماقه، رغم أنه من أهم القضايا الوطنية التي ترتب عليه ضياع مستقبل العديد من الشباب وخسائر اقتصادية وشروخ اجتماعية.

لقد أشبعت بحوثكم العديد من القضايا المتعلقة بالذاكرة واستخداماتها والحركات الإسلامية السنية وهي بحوث قيمة جداً تشكرون عليها، ولكننا بحاجة إلى أن نتعامل مع جذور المشكلة المحلية هنا في البحرين وهذا يتطلب جرأة بحثية علمية بلغة رصينة وشجاعة أدبية تساعد الدولة والقائمين عليها وتساعد أصحاب المشكلة وتساعد بقية شرائح المجتمع بالتعامل معها تعاملاً ينهي هذا الصراع وهذه الإشكالية من جذورها.

نحتاج أن نسمع كمجتمع صوتكم لا أن يقال خلف الجدران ووسط اللجان، لقد تجرأ العديد من أبناء القرى في البحرين وقالوا لا، وتأخر الباحثون والدارسون منهم ومازالوا، ثم تجرأ العديد من مثقفي الجنوب العراقي واللبناني وواجهوا الغول المخيف المدجج بالسلاح وخسر البعض روحه نتيجة تلك المواجهة وجبن -مع الأسف- باحثونا وأكاديميونا البحرينيون رغم أن الخطر المحدق بهم لا يوازي أبداً الخطر الذي واجهه الجنوبي اللبناني أو العراقي، ورغم حماية الدولة لهم وتكريمهم وتقريبهم لتطمينهم.

فهل استبدلتم مهمتكم الوطنية والمتمثلة في خطابكم الذي من المفروض أن يوجه للشعوب إلى الاكتفاء بالخطاب الموجه للدولة؟ هل إشراككم في هذه اللجان الوطنية وعضويتكم في المؤسسات الرسمية أغنتكم وكانت لكم طوق نجاة تتدثرون به وتكتفون به عن وظيفتكم الأساسية؟

في كل منعطف نبحث فيه عن أصواتكم سنظل نعيد طرح التساؤل علناً علّ أكسير الشجاعة يوماً يصل إلى الأعماق.