أصبح واضحاً بأن الحروب القادمة غير تقليدية لا من حيث نهجها وتكتيكاتها ولا آلياتها ولا معداتها ولا حتى أفرادها رغم وحدة أهدافها.

الحروب القادمة ستكون عن بُعد، وقائمة على عدو جالس في بيته ويحرك جيوشه بالذكاء الصناعي من منزله من أجل السيطرة السيبرانية ومن جانب آخر يقوم بتحريك عقول الشعوب من خلال عملائهم وبتوفير الدعم اللوجستي لهم ليتحركوا هم بالنيابة عنه!

الحرب القادمة قائمة على استهداف الداخل بالتغرير بشرائح من المواطنين، لأنها حروب قائمة على اختراق الجبهة الداخلية، وجعل جيشها مشكلاً من مليشيات محلية تزود بالأسلحة وتدعمها آليات مسيرة عن بُعد، واستهداف سيبراني يعطل لك نظامك عن بُعد ومنظمات وقوى عابرة للحدود تبدأ من التطبيقات الإنترنيتية (تويتر وفيس بوك وانستغرام وواتس آب) وتمر عبر منظمات بلا حدود، ويدعمها إعلام عابر للحدود كي تشكل للعملاء مظلة حماية تشرعنها!

لهذا فإن أول استراتيجيات الدفاع المستقبلية سترتكز على تحصين الجبهة الداخلية والوصول لعقول الداخل قبل وصول خصمك لهم، لا أن تنتظر أن تعالج فوضاهم الأمنية فحسب بعد حدوثها، بل تصل لعقولهم بشكل لا يتعامل معها باستخفاف ولا يتهاون بقوة خصمه الذي يسعى لتغريره، كما أنها استراتيجية دفاعية لا تفقد الأمل في كسب تلك العقول أياً كانت التحديات.

وتعقيباً على المقالين السابقين حول ما قامت به مصر من مشروع دفاعي ضخم أعلن عنه الرئيس السيسي في مؤتمر للشباب عام 2019 بتوجيه الأمر لمخاطبة العقول والقلوب الجماهيرية وتحصينها، وبتوظيف الدراما التلفزيونية كوسيلة وسلاح يُعد من أقوى وأقصر وأسرع الطرق للوصول للجماهير.

كانت الأهداف التي سعت لها القوات المسلحة هي إعادة الاعتبار للشخصية المصرية وهويتها الوطنية قبل أن يستحوذ عليها فكر الأخوان المسلمين، إذ تلاعب فكر الأخوان في عقول الشباب فعزلهم عن محيطهم الأسري والوطني والقومي العربي، فهدف المشروع المصري وبشكل راقٍ وعلى درجة عالية من المهنية لإعادة تلك الروح المصرية العربية، مهما كلف الأمر، الهدف الآخر هو إعادة تموضع للجندي والعسكري المصري داخل الذهنية المصرية، فهو الأخ والأب والصديق بعد أن شوهت هذه الصورة وتم تمسيخها من قبل الأحزاب الدينية.

أما نتائج ذلك السلاح الدفاعي فمبهرة وتفوق بكثير نتائج استخدام تلك الآليات التقليدية الدفاعية، بل الأصح أنها -إن نجحت- فإنها تغنيك عن استخدام تلك الآليات.

تحصين العقول هو تحصين للجبهة الداخلية وقطع الطريق على خصومك وإنهاء لأي حرب قبل بدئها.

نعم كانت هناك مقاومة وإعلام مضاد، نعم كان هناك من يعمل على الوقوف ضد تلك الأعمال الدرامية، ويحاول أن يستخف بتأثيرها، نعم كانت هناك صعوبة لإعادة بناء الذهنية المصرية بعد سنوات من السيطرة الأخوانية خاصة في المناطق الفقيرة والشعبية، نعم كانت هناك ثقة مهزوزة بين الأقباط والمسلمين، كل تلك التحديات لم تقف عقبة ولم تمنع خوض التجربة.

تستطيع أن تصرف الملايين على كتب ومحاضرات وندوات ومؤتمرات ولكن نتائج تلك الأساليب التقليدية محدودة جداً وتصل لأعداد محدودة جداً، إنما التلفزيون عموماً والدراما خصوصاً تدخل كل بيت.

ما فعلته الدراما التي أشرف على إنتاجها القوات المسلحة فاق كل التوقعات، قياس النتائج على مستوى القاعدة الجماهيرية كان مشرفاً، لقد نجحت الدراما في تسليح المواطن العادي بالمنطق والحصانة الفكرية ومنحت المواطن البسيط ما يرد به على كل من استغل الدين ليفرق بين أبناء الشعب الواحد وبين المواطن و«الدولة».

قُدمت تلك (الأسلحة) المنطقية العقلانية بقالب درامي مشوق وباحترافية عالية جداً أقبل عليها المشاهد بشغف، كانت مشاهد التحقيق في المسلسلات التي تضم العنصر الإرهابي وضابط التحقيق فرصة للرد على كل تلك الأفكار المضللة، فعرضت الأفكار الهدامة كما هي بلا خوف ولا خشية ولا تردد ولا حرج، ومعها جاء الرد على لسان رجال الدولة يفحمها ويخرسها فأخرست تلك الأفكار وتسلح المواطن البسيط العادي بمنطق رجال الدولة بعد أن أقنعه وبعد أن أحب وتعلق قلبه بهؤلاء الرجال الذين يشبهونه في حياتهم كجزء منه. فرجل الأمن له عائلة وأب وأم وزوجة وأبناء، ولديه ما يشغله كفرد من الأسرة مثله مثل المشاهد العادي في الدراما، على عكس ما روج على أنهم «جنود الطاغية» وأنهم كفرة قياساً بمعتقدات تلك الجماعات.

خلاصة القول ما حققته الدراما في السنوات الثلاث الأخيرة عجزت عنه كل وسائل الإعلام والتعليم خلال عقود. وكلفة مشروعها بتوظيف الدراما ستكون حتماً أقل بكثير من تكلفة شراء معدات وآليات عسكرية وأمنية دفاعية ستبقى في المخازن ولن تستخدم!!.

هنيئاً لمصر ذلك الإدراك المبكر لاستحقاقات حروب المستقبل.... هل وصلت الرسالة؟