تابعت برنامجاً وثائقياً من حلقة واحدة على منصة شاهد وهو تقرير استقصائي قام به صحافي بريطاني شهير يدعى ديفيد ديمبلبي طرح سؤالاً واحداً هو كيف تمكن بوتين من أن يحكم روسيا لمدة تزيد عن 18عاماً؟

تحير البريطانيون من شعبية بوتين هل هي حقيقية أم مزيفة؟ حاول الصحافي بشتى الطرق أن يثبت أن تلك الشعبية الطاغية موجودة في بروباغندا الإعلام الروسي فقط، سأل مراكز استطلاع مستقلة، سأل أطفالاً، سأل عوائل وأسراً في بيوتها، سأل صحافيين، سأل مراكز شباب، سأل تجار عقارات، سأل وزراء سابقين، سأل معارضين، سأل أفراداً يرفعون لافتات احتجاج على الفساد، أما الدوما الروسي أي البرلمان الروسي، فوصل إلى نتائج قاطعة بالنسبة له، أن لبوتين شعبيةً حقيقيةً طاغيةً، قد لا تصل نتائجها إلى الأرقام المعلنة، إنما واقعياً وعلى الأرض ليس لبوتين منافس حقيقي .. وأن (مسرحية) نافالي المعارض التي تبناها الإعلام الغربي زادت من شعبية بوتين ولم تقللها وهذا الذي حيرهم أكثر، نقطة ومن أول السطر.

حاول أن يفسر كيف حصل على هذه الشعبية، فقال - وفقاً لتفسيره هو- أن السبب هو التربية الوطنية التي يشرف عليها بوتين بنفسه، والسبب الثاني هو سيطرته على الإعلام، ويعتقد ديفيد أنه من خلال شخصية بوتين المعتزة بهويته ارتبط في الأذهان الروسية بأن روسيا العظيمة تمثلت في بوتين، هو من يمثلهم كروسيا. ذهب التقرير لمراكز التربية الوطنية وهي مراكز ينضم لها الأطفال في الصيف تعلمهم الرماية والسباحة وركوب الخيل، تنمي فيهم حب روسيا التي يسمونها أمنا روسيا، من خلالها يتعلمون الانضباط والالتزام، من خلالها يتعلمون الالتزام بتعاليم الكنيسة الارثوذكسية المتحالفة مع السلطة. يعتقد ديفيد الصحافي البريطاني أن نجاح بوتين في تعزيز»الهوية الروسية الوطنية» سبب رئيس من أسباب شعبيته الطاغية. كما يعتقد أن موقف الغرب المناهض لروسيا ساعد بوتين في التفاف الناس حوله ولم ينقلبوا عليه، باعتبار تلك العقوبات التي فرضت على روسيا شكلت خطراً عليهم لا على بوتين فحسب، فلا انتشار الفساد ولا صرامة القانون تجاه -من صنفهم التقرير كمعارضين وصنفهم الروس كفوضويين وعملاء- قللت من شعبية بوتين، فالكثير من الروس يحبونه حباً حقيقياً، بل أن أكثر مؤيديه من الشباب على عكس ما ظنه ... إذ كان يعتقد أن مؤيديه من كبار السن الذين يحنون لصورة روسيا القديمة التي يمثلها بوتين خير تمثيل، فوجد أن الشباب هم الشريحة الأكبر من المعجبين بسبب تلك «الهوية» التي اعتقد الغرب أنها منفرة، فإذا بالشباب الروسي يختارها نموذجاً وقدوةً. الخلاصة ما جاء في التقرير يؤكد ما ندعو له دوماً وهو أن الدولة بمؤسساتها بقوانينها لها الدور الرئيس في تحديد الهوية الوطنية ومن ثم في غرسها في النشء وفي تشريبها للروح داخل عروقهم.

ويؤكد التقرير أن «الإعلام « يعامل كوحدة من وحدات الجيش، من حيث تبعيته، يحدد هو كهوية وكمنهجية ورؤية ويكلف بتعزيز تلك الهوية وغرسها إلى جانب المراكز الشبابية.

نأتي للمتفلسفين الذين يقولون إن الأجهزة والمؤسسات العسكرية لا يجب أن تخضع للأجهزة الأمنية فنلفت انتباههم إلى أن في الدول الأعرق ديمقراطياً وانفتاحاً تشرف هيئات الاستخبارات والأمن الوطني والخارجية على الإعلام فيها بل وتشرف على الإنتاج الدرامي، باعترافهم إذاعة وتلفزيون وسينما، الفرق أنهم يعملون معهم من وراء الكواليس ولا يظهرون في الصورة. إنما ما تراه من تعزيز وتفخيم للجندي الأمريكي أو رجل الأمن البريطاني أو الجاسوس الفرنسي كلها أعمال تقف وراءها أجهزة الأمن الوطني في تلك الدول، واليوم تركيا وإيران دخلتا هذا المجال وبدأتا تعدان إعلامهما لزرع الهوية الوطنية من خلال الدراما، لدرجة أنك وأنت العدو لهما تحترمهما وربما تحبهما، فلا تتفلسف وتقول لي إعلاماً حراً!!

الخلاصة أن الجميع وصل إلى قناعة بأن توظيف القوى الناعمة لتعزيز الهوية الوطنية مكسب يعادل الانتصار في معركة حربية، وأن قيمة واحدة من الأسلحة أوالطيران أو البحرية الحربية ممكن أن تجنبك الدخول في معارك حربية، أو تحمي الشباب من الغواية والتغرير لو أنك وظفتها صح.

لدينا تاريخ بحريني نعتز به، ولدينا هوية عربية كابراً عن كابر، ولدينا عمق حضاري عريق يمتد لآلاف السنين، يصلحون ذخيرة حية وأجنحة يطير بها شبابنا عزاً وفخراً وانتماء لتلك الهوية، ولكننا لم نحسن توظيفها بعدو ظناً من أن الإعلام مضيعة للوقت والمال!!