عاش رسولنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم في ظروف بالغة الصعوبة، منذ ولادته، حيث توفي والده قبل ميلاده، ووالدته توفيت بعد 6 سنوات من الميلاد، وعمه أبو طالب وزوجته خديجة توفيا في عام أطلق عليه عام الحزن، وذلك في بداية العقد السادس من حياته عليه الصلاة والسلام.
ورغم كل ما سبق فقد كان كما ورد في الأثر «رحمة مهداة» للعالمين فلم يدعُ على أحد من أعدائه وخصومه بل إنه عندما ذهب إلى الطائف ورفض أهلها دعوته وسار خلفه شباب وغلمان تلك القرية يشتمونه ويسبونه ولجأ إلى حائط للراحة قال مناجياً ربه «إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي فإن رحمتك، وعافيتك أوسع لي» فأرسل الله سبحانه وتعالى إليه جبريل ليواسيه وليعرض عليه أن يطبق الأخشبين «أي الجبلين» المحيطين بالمنطقة على أهل الطائف فيدمرها تدميراً، رفض رسول الهدى والرحمة المهداة للبشر جميعاً بل لسائر المخلوقات قائلاً «عسى الله أن يخرج من أصلابهم من يؤمن بالله ويكون صالحاً».
وكان الرسول هو رحمة للعالمين من الإنس والجن والحيوان والنبات، ولذلك، قال دخلت امرأة النار في هرة «قطة» حبستها فهي لم تطعمها ولم تتركها تأكل من خشاش الأرض. ودخل رجل الجنة لأنه سقى كلباً شربة ماء وكان الكلب عطشاناً وبعد أن شرب الرجل من البئر نظر فوجد كلباً يلهث من شدة العطش فنزل وأحضر ماء من البئر.
وفي هذا السياق المليء بالمحبة والرحمة مع رسول الله للعباد، فلم يرغب في قتل أعدائه بعد أن انتصر عليهم، وكان يمكنه أن يدمر بيوتهم ويقتلهم، قال لهم، ماذا تظنون أني فاعل بكم، فردوا بخوف قائلين، أخ كريم وابن أخ كريم، فأجابهم اذهبوا فأنتم الطلقاء، ثم أمر المنادي يقول من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن دخل داره وأغلق عليه بابه فهو آمن. وهكذا أكد الرسول الكريم أنه حقاً الرحمة المهداة.
وفي هذا السياق قال الشاعر «ولد الهدى فالكائنات ضياء»، أي أنه أضاء الكون بنور الإيمان وبالنور الإلهي كما قال الله تعالى «الله نور السموات والأرض...»، والرسول يؤكد أنه مبعوث ليس لمجرد الصلاة والصيام وإنما هو مبعوث كما قال ليتمم مكارم الأخلاق، وحقاً قال الله سبحانه وتعالى مخاطباً إياه «وإنك لعلى خلق عظيم»، هذا هو الرسول الكريم الذي يحتفل المسلمون بل وكثير من غيرهم بذكرى ميلاده المجيد في هذه الأيام. والاحتفال بالذكرى ليس بالطعام والشراب، وإنما بالدراسة المتمعنة للقيم والمبادئ التي جاء بها الرسول والتي جعلته «هدى ورحمة للعالمين»، وجعلت المولى عز وجل يصفه بقوله «وإنك لعلى خلق عظيم».
وجدير بنا معشر المسلمين أن نستذكر في هذه الأيام المباركة سلوك وتصرفات رسولنا محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، وفي نموذج بالغ الدلالة يرد على أولئك المنحرفين الذين يتمسحون في الإسلام وهذا النموذج نسوق مثالين يرتبطان به، الأول عندما كان يسكن في منزل، وجاره يهودي يلقي القاذورات كل صباح في طريق الرسول وعندما افتقده لعدة أيام وسأل عنه قالوا إنه مريض فقام بعيادته أي بزيارته للسؤال عنه والإعراب عن تمنياته له بالشفاء ولذلك كان من توجيهات الرسول الكريم قوله «عيادة المريض صدقة». أما المثل الثاني فهو تأكيد القرآن الكريم وتوصيته على الجار وجار الجار بغض النظر عن كونه مسلماً أو غير مسلم لأنه بشر ولهذا نسوق المثال الثالث وهو بينما كان الرسول يجلس مع أصحابه مرت بهم جنازة لإنسان فقام تحية لها فقال له أصحابه إنها جنازة ليهودي فرد عليهم أليست هذه نفساً بشرية خلقها الله. ونستذكر في هذا السياق قول الله تعالى «من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً». هذا هو الإسلام الحق وهذا هو رسولنا الكريم. فهل نقتدي به وهل نكون مسلمين حقاً إذا قتل بعضنا بعضاً بلا ذنب وبلا جريمة أو اعتدى بعضنا على جيرانه من الأديان والعقائد الأخرى وهم جميعاً خلق الله؟!
هذه الذكرى العطرة جديرة بأن يحتفل المسلمون بها بالأسلوب الصحيح وليس بالطعام والشراب والحلوى وإنما بإحياء القيم السليمة التي جاء بها رسول الله الذي هو رحمة مهداة.