التجربة في الهند وباكستان تتبع المنهج البريطاني في أمرين، أولهما أن رئيس الأركان هو القائد الفعلي للقوات المسلحة، والثاني هو أن رئيس الأركان هو أقدم الضباط والجميع يحترمه وإن كان مختلفاً في توجهاته عن رئيس الوزراء المنتخب ديمقراطياً والقرارات العسكرية يتخذها رئيس الأركان، أما الرئيس فهو يعتمد ذلك اعتماداً سياسياً وهذا هو نفس الممارسة في كثير من الدول الديمقراطية بما في ذلك الولايات المتحدة، ولهذا ففي ظل الصلاحيات العملية لرئيس الأركان فإنه يمكن أن يكون وزير الدفاع مدنياً أو حتى امرأة كما حدث في إسبانيا وفرنسا والهند وباكستان وغيرها وكذلك الأمر بالنسبة لوزير الداخلية فإن صاحب القرار الرئيس هو وكيل الوزارة المحترف المهني وليس الوزير السياسي.
التجربة المصرية منذ ثورة 1952 كانت على خلاف ذلك فوزير الدفاع عسكري وكذلك وزير الداخلية وإلى حدٍ ما وزير الخارجية من الدبلوماسيين المحترفين، وهذا لارتباط الوزارات الثلاث برئاسة الدولة، وهو كان ذا خلفية عسكرية من عبدالناصر حتى حسني مبارك ولعل أحد أسباب انضمام الجيش للتحرك الشعبي في ثورة 25 يناير 2011 ما كان يتردد بل ويعد من قبل بعض المنافقين السياسيين من التهيئة لتوريث جمال مبارك وهو مدني وليس له أية خلفية عسكرية. ولهذا فإنني أقول إن ما أثير حول دور العسكريين في الدستور الجديد كان لغطاً لا مبرر له أملته بعض الفئات للمزايدة ولتشويه صورة القوات المسلحة بالشعارات التي طرحت في المرحلة الأخيرة من الحكم الانتقالي بعد تخلي الرئيس مبارك بشعار "يسقط حكم العسكر"، وهو شعار ارتبط تاريخياً بالعسكر الإنجليز وليس بالجيش المصري الوطني، ولكن قوى سياسة معينة، كان لها مصلحة في هذا التشويش والتشويه وخلط الأوراق وانساق وراءها آخرون بدون وعي، رغبة في التحول للحكم المدني وإن ممن يؤيدون الحكم المدني من حيث المبدأ ولكن للضرورة أحكامها خاصة في فترات الانتقال السياسي حيث تسود الفوضى وتتعدد وتتصارع القوى السياسية والحزبية وتكثر التظاهرات والآراء المتناقضة والمتعارضة كما حدث من أحزاب مصر قبل ثورة يوليو 1952 وكما هو حادث الآن من تعدد الأحزاب لأكثر من مائة حزب بطريقة غير مفهومة وتدل على ضعف الوعي والإدراك لمعنى العمل السياسي الحقيقي وليس الشكلي وكثير من الأحزاب المصرية الحالية لا قاعدة شعبية لها ولا تاريخ نضالها لقياداتها.
ففي الولايات المتحدة يوجد حزبان رئيسيان وكذلك بريطانيا وأيضاً في فرنسا منذ الجمهورية الرابعة التي أقامها الجنرال شارل ديجول وما عدا ذلك فهي أحزاب ضعيفة لا تؤثر في الاستقرار السياسي للدولة. أما في فترات التحول والانتقال السياسي خاصة فلا يكون مثل هذا القول سليماً على إطلاقه بل لا بد من دراسة سياسية علمية وليست منقولة من كتب التجارب الغربية الكلاسيكية بتشويه قوة وطنية قامت بدورها البطولي والوطني وبدون هذا الدور ما كانت نجحت ثورة 25 يناير أو ثورة 30 يونيو بل مثل هذا القول لا مبرر له ويجب أن يكون للقوات المسلحة مكانة خاصة وبنص الدستور على ذلك سواء لحمايتها أو بمنحها مزايا معينة وأيضاً لرجال الأمن من وزارة الداخلية، وأنا أقول ذلك رغم أنني أنتمي للقطاع المدني وليس لي علاقة بالجوانب العسكرية أو بالشرطة سوى حب الوطن وقول الحقيقة التي أعتقد فيها ولكنني أستند للتجارب التاريخية في مصر والعالم، وفي نفس الوقت أدعو لضرورة وجود الانضباط العسكري كما كان يحدث في الماضي حيث الشرطة العسكرية كانت تحاسب أي جندي أو ضابط على سلوكه في الشارع ومن يخرج عن الالتزام الصحيح من الشرطة أو الجيش أو أية مهنة مثل القضاء أو الدبلوماسيين أو خلافهم بما في ذلك رجال الإعلام يجب أن تتم معاقبتهم فليس هناك مواطن فوق القانون، والمحاسبة تكون عادة أمام القاضي الطبيعي إلا في حالات الضرورة مثل حالة العسكريين أثناء تأديتهم أعمالهم أو نحو ذلك. كما أنني لا أجد مبرراً منطقياً لمنع العسكريين من الترشح للمناصب الرئاسية، فالولايات المتحدة ليس لديها نص يمنع ذلك، وفي كثير من الدول الديمقراطية طالما خلع الزي العسكري فلا يمنعه، كذلك رجال الشرطة لأن الجميع في هذه الحالة مواطنون متساوون في الحقوق والواجبات. وختاماً نقول تحية لقواتنا العسكرية الباسلة ولقوات الشرطة والقضاء ورجال الدبلوماسية والإعلام وكافة المواقع في الدولة وعلى الجميع أن يحترم الآخر وعلى النظام أن يراعي مبدأ العدالة وتكافؤ الفرص لجميع مواطنيه فهذا هو أساس الهوية والمواطنة والوطنية. فتحية خاصة لمن خلص مصر ممن سعى لتضييع هويتها وإسلامها المعتدل ونظرته لكل فئات وطوائف المجتمع. فالوطن ليس مكوناً من مسلمين بل من مواطني مصر البررة من الأقباط على نفس المستوى، فالجميع شركاء في الوطن وفي الدفاع عنه.
* باحث في الدراسات الاستراتيجية الدولية