فكرة الدبلوماسية متعددة الأطراف الهادفة إلى إرساء نظام أمن عالمي شامل، ويقوم على الالتزام الكامل بالقانون الدولي للقضاء على كل أشكال الشر على الأرض، هي دون شك، من أعظم النظريات التي اخترعتها البشرية للخروج من أعتى الحروب وأكثرها فتكاً لسلالتها.

.

وأهم تطبيق لهذه النظرية العصرية، قيام ما سُمّي بـ«عصبة الأمم»، لبدء فصل جديد من السلام العالمي، بقيادة الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى، التي أرادت بذلك، أن تسوّي حساباتها مع الدول المنهزمة، وتوزّع تركات الحرب بخرائطها الجديدة.

.

واستمر هذا التنظيم بالبقاء حياً، حتى -تقريباً- أوائل الأربعينات من القرن الماضي، وهي فترة شهدت بوادر الحرب العالمية الثانية، وتخلّلها انسحاب اليابان، وألمانيا «الهتلرية»، وإيطاليا. وجميع تلك الدول اختارت مسار الحرب للتعامل مع مشاكلها الخارجية، غير مكترثة بتماسك العصبة ومساعيها لتخليص العالم من براثن الحروب.

.

والواضح في مسألة انسحاب هتلر من العصبة الأممية، هو لمباشرة خططه العسكرية في التوسع والتمدّد، ومن سخرية الأقدار، فإن هذا الرجل الذي اشتهر بدمويته وبطشه ورعونته في فرض سياسة التفوق العرقي والإبادة الجماعية، كان واضحاً، على الأقل، في إجرامه، وفي اختيار مكانه.. في قاع التاريخ.

.

ولا أريد أن أتحمّل هنا، مسؤولية تشبيه أحد بأحد، ولكن ما يحصل حالياً على أرض الواقع، هو نسخة طبق الأصل لذلك الفكر المتوحش في البطش ووأد السلام، على الرغم من الجهد الجهيد للنظام العالمي في التمسّك بمساراته، وفي حشد موارده وطاقاته للقضاء على كل ما يهدّد التحضّر الإنساني.

.

ومناسبة هذا التقديم، تزايد حدّة المطالبات بإصلاح هيكلية عمل الأمم المتحدة، التي وصلت لمشارف الثمانينات من العمر - (24 أكتوبر 1945)، لإبعاد كابوس الفشل الذي واجهته نسختها الأولى، ولإبقاء الأمل في عالم يتمسّك بالسلم ويُتقن دبلوماسية الحلول.

.

والصوت المنادي للإصلاح، يأتي من داخل المنظمة الأممية، للخروج من مأزق تبعثر جهودها في حفظ أمن وسلامة الكون الذي يتهدّد فضاؤه بغزو من نوع جديد، ويتلوث مناخه بكل ما يُمرض الشجر والبشر، وتنوء أرضه بالحروب والكوارث المعطلة لمساعي التنمية في تحقيق أدنى متطلبات العدالة.. بين شماله وجنوبه.

.

ناهيك عن، اضطرارها للتعامل مع فشل الإنسانية الذريع في حماية من هم «أقل حظاً»، كما تسمّيهم المنظمة، وخصوصاً في مناطق الحروب والنزاعات الأهلية، الذين يتساقطون كورق الخريف على ضفاف نهر «هدسون» -الأمريكي- حيث يقع مقرها العامر بصولاته وجولاته وبياناته، المُعربة عن قلق المنظمة البالغ تجاه كل المآسي.

.

وإذا تمعّنا في تلك المطالبات التي يريد، أمينها العام، أن تدخل في «رحلة إصلاح» جادّة وشجاعة، نجد، بأن أهمها وعلى رأسها، أولوية إصلاح مجلس الأمن بتركيبته التي «عفا عليها الزمن»، بقصد إرخاء قبضة يد الدول المنتصرة في حرب العالم الثانية، والمحتكرة، منذ ذلك الحين، إدارة المشهد العالمي، والمتجاهلة لقوانين التطور والتجديد، والعاجزة عن إصلاح أقل القليل، كمراعاة عدالة التمثيل الجغرافي لأعضاء الأسرة الدولية، للمساهمة في قيادة عجلة السلام من منظور يراعي المصلحة الجماعية.

.

وسأقف أمام هذه النية الصادقة للتجديد، بنوع من اللؤم الذي يتبنّاه محامو الشيطان، للسؤال، عن استعداد الدول الخمس الممسّكة بورقة الفيتو الشهيرة (حق النقض)، بالسماح لغيرها لذات الحق؟ وهل ستقوم تلك الإصلاحات بمعالجة ثغرة غياب تقنين حالات التلويح بحق النقض، وتقييد الإسراف في استخداماته؟

.

وما هو المسار الذي ستتّبعه المنظمة لتحديد أحقية الدول التي آن أوان انضمامها للمجلس؟ دون الدخول في سجالات تنبع من التأزم الراهن في العلاقات الدولية بين شرق العالم وغربه، وقيام تكتلات أكثر انسجاماً فيما بينها، وأكثر حدّة في الابتعاد عن صيغة عالم أحادي القطبية.

.

وحتى في حالة توافر إجابات حاسمة لمثل هذه التساؤلات، فإن تلك الإصلاحات المرجوة ستواجه عدداً لا يُستهان به من التحديات، أولها، تراجع قدرة المنظمة الدولية على إيجاد الحد الأدنى من التوافقات للدفع باتجاه التطوير، وثانيها، استحالة إنفاذ قراراتها، لإنقاذ ما يُمكن إنقاذه، حتى لو اتفق الـ5 الكبار!

.

ويا خوفنا من أن تتحول هذه العصبة العتيدة بأهدافها السامية والنبيلة لخدمة الإنسانية وحفظ البقاء البشري، لمنصة خطابية عرمرمية، وساحة مواجهة بين الأضداد، وموعدهم -كل عام- في جمعيتها العمومية.* عضو مؤسس دارة محمد جابر الأنصاري للفكر والثقافة