الإسلاموفوبيا أو الخوف من التمدد الإسلامي وتهديداته كما يشير له المصطلح الآخذ بالانتشار والازدياد في نفوس المرتعبين من هذا الدين السماوي وأتباعه، هو تعبير حديث نسبياً في مفردته اللفظية منذ شيوعه في الثمانينات بعد الثورة الخمينية في العام 1979، ومن ثم تعريفه وتثبيته كمصطلح في الدهاليز البحثية على يد مركز البحث البريطاني «رونيميد ترست» في العام 1997 ضمن تقريره الشهير المعنون بـ»الإسلاموفوبيا: تحدٍّ لنا جميعاً»، إلى أن شاع صيته بصورة مكثفة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، كما تشير أغلب المراجع، وصولاً إلى اعتماده كيوم من الأيام العالمية على أجندة الأمم المتحدة للتنبيه لها كظاهرة خطيرة بما ينتج عنها من عداء وكراهية وعنصرية تجاه المسلمين.

المحزن والغريب في هذه المسألة هو نجاح محاولة إلصاق تعبير «الفوبيا» بالإسلام، مقارنة بنجاح إقران تعبير «المعاداة» بالسامية، وشتان بين تجريم الفعل النابع عن الأول مقارنة بالثاني، إذ وفي مناسبات عديدة يتم تجاهل الفعل الأول وتفريغه من محتواه، والأمثلة عديدة وتدمي لها العين ومعها القلب.

أما المضحك والمبكي في هذا التعبير -أي تعبير الفوبيا- هو ارتباطه بمجال الأمراض النفسية، والرهاب كما يُعرف هو اضطراب سببه الخوف الشديد، بل الهلع والفزع غير الواقعي، ويتطلّب في كل الأحوال علاجاً طبياً مكثفاً لتخليص المريض من آثاره غير المحمودة على حياته!

ومع هذا التوصيف لإشكالية الخوف من الإسلام، يستنتج المرء بأنها إشكالية ظاهرية لعقدة متأصلة في العقل الغربي المأزوم، وتتزايد حدتها لأسباب تاريخية متشابكة تعود جذورها لموقف الأديان من الإسلام في أوائل عصوره، وما تلا ذلك من هجمات متعدّدة على الشرق الإسلامي كان أشهرها وأدماها وأطولها الحروب الصليبية، وما رافق كل ذلك من تحولات على المستوى السياسي للدولة الإسلامية، بين تصاعد وانحدار حضاري، أبعد تلك الدولة عن صلب جوهرها الذي حرص نبينا الكريم، عليه الصلاة السلام، على تحديد ملامحها الأولى في مجتمع المدينة المنورة لتتأسس قواعدها على مبادئ محسومة وصريحة تمثلت في نظام الحكم القائم على الشورى، والعدل بين رعاياها، وحماية كرامتهم الإنسانية، وكفالة حرية معتقداتهم، فلا أفضلية لأحد، إلا بتقوى القلوب، بين العبد وربه.

وبالرغم من المحاولات العديدة التي بذلها مفكرو الأمة لتقديم الإسلام كدين يُعلي الإنسان ويحرّم الاعتداء عليه ومصادرة حقه في الاختيار، إلا أن الشعور بالرعب غير المبرَّر والاستمرار في معاداة الإسلام لا يتوقف.

ونرى، كما قلنا آنفاً، بأن جذور الرهاب النفسية تعود لقرون ساحقة، ونجد انعكاساتها في كتابات بعض المستشرقين التي أوهمت العقل الغربي بأن هذا الدين هو أخطر عدو للحرية والحقيقة، ضاربين بعرض الحائط ما انتجه هذا الدين من حضارة سبقت أوانها بثرائها الفكري وإنتاجها العلمي وأنظمتها المدنية التي ارتقت بحياة المسلمين والمتعايشين معهم بما يستوعبه هذا الدين من سماحة ورحمة واحترام وجهاد للارتقاء بالنفس البشرية.

ومع هذا التقديم لإشكال قائم ويتزايد لارتباطه بتقلبات المشهد السياسي الدولي المتفاعل والمؤثر في هذه الظاهرة ومظاهرها، فإنه من باب الموضوعية والعدالة، أن نعود إلى واقعنا كأمة إسلامية للبحث عن دور الأمة في معالجة هذا العداء أو على الأقل لاحتوائه وإطفاء نيرانه.

ومما يُصعّب هذا الأمر، وقوف هذا الإشكال على أرضية وعرة من التراكمات التاريخية يتداخل فيها الخيال مع الواقع، والأوهام مع الحقائق، وهذا يستدعي أن يستمد العقل الإسلامي كل أدوات المنطق والحكمة والموضوعية عند مواجهة مثل هذه القضية الشائكة، ويبدأ ذلك، بالمواجهة والمصارحة والمكاشفة الذاتية قبل مواجهة الآخرين.

ولن نصل لمثل هذه النتيجة، ما لم نتمكّن من طرح الأسئلة المناسبة للنأي بآخر الأديان عن تُرَّهات الخوف والرعب وتخيّلاته ومن سوء الفهم المتعمّد، في الغالب، من أجل القضاء على «بعبع الترويع» الكامن في الأذهان وتشويهاته المؤدية إلى تنميط ديننا الحنيف بأنه دين يبرّر للعنف وسلب الحقوق وكتم الحريات الأساسية.

وأول تلك الأسئلة، هل استهداف الإسلام هو استهداف ممنهج ويمسّ الـ25% من سكان العالم من مسلمي أقصى الشرق إلى مغربها؟ وهل هذا الصِدام هو فعلاً موجّه لجموع المسلمين أو هو موجّه تحديداً لمن ينتسب للتيارات والحركات الأصولية المتطرّفة أو بسبب موجات الهجرة من العالم العربي المسلم، تحديداً، نحو الداخل الغربي، وإن كان كذلك، فلماذا التعميم؟

ثانياً، هل العداء الذي يتجسّد في أفعال هجومية وتمييزية صارخة تجاه الأقليات المسلمة في الغرب لا يوجد ما يبررها أو يستفزها في عقر دارها؟ وما الذي تراه العقلية الغربية من دلائل على قمع أتباع الإسلام للحريات الأساسية؟ وهل هناك ظواهر لتمجيد العنف ومنحه صكوك القداسة في الواقع الإسلامي؟

ثالثاً، من المسؤول عن تغذية هذا الهلع من الهوية الإسلامية في العقل الغربي، هل هي الدوائر السياسية أم الإعلامية أم البحثية أم هو بتنسيق مشترك بينهم؟

رابعاً، لماذا لم تنجح المؤسسات المعنية بنشر فكر الإسلام والتعريف بجوهره وقيمه السامية، في التصدي لهذه الإشكالية المستمرة بالحجة والحوار المقنع، وهل من مبادرات توفقت في اختراق جدار الخوف وفي التقليل من جرائم العنف غير المبرَّر ضد أتباع دين الإسلام؟

خامساً، ما الذي فعلته ماكينات الدفاع وتفنيد معاداة السامية ونجحت في تطبيقه، ولم تستطع أن تقوم به التنظيمات المدافعة عن الإسلام والتي تتخذ من العالم الغربي مقراً لها في طمأنة الآخر، وبأنه لا توجد نوايا أو محاولات خفيّة لأسلمة مظاهر الحياة في الغرب الذي يفترض بأنه على ثقة تامة في صلابة دولته المدنية وبقدرتها على الفصل التام بين دينه ودولته!

سادساً، هل كُتب لمثل هذا الصراع بأن يبقى مع بقاء البشرية، فلا مفر إلا بالتعايش معه وفي أحسن الأحوال الشجب والتنديد كأقصى ما يمكن العمل به؟ أم من الأفضل أن نتمسّك بأمل عودة العقلانية وسلاسة التواصل والتفاعل الحضاري بعيداً عن شؤم التصادم والقطيعة بسبب ذلك الخوف من المجهول الذي يُعمي بصائر العقول؟

الأسئلة تطول في هذا المبحث، وقد لا تكون هناك إجابات جاهزة للردّ عليها، وإن وُجِدَتْ فإنها تبقى بعيدةً كلّ البُعد عن الرغبة الحقيقية في إيجاد مساحة مشتركة للتفاهم ووقف التراشق بالتهم.

إلا إنني أترككم مع سؤال أخير، فمع تحديد يوم عالمي «للإسلاموفوبيا»، هل نفهم من ذلك بأن الظاهرة وُجِدَتْ لتبقى قَدَراً مكتوباً، وبأن دين الإسلام بدلاً من أن يكون «أماناً للخائفين» سيظل سبباً في «ترويع الآمنين» كما يصفون؟ ألا ساء ما يحكمون!

*عضو مؤسس دارة محمد جابر الأنصاري للفكر والثقافة