أحياناً تُقرّر الثقافة، لأسباب عديدة ومتشعبة، أن تتخلّى عن دورها الطبيعي في المحافظة على الملامح الأساسية للشخصية والهوية الوطنية وحماية تضاريسها الحضارية من الضياع، وإذا بحثنا عنها، نجدها راكدة على هامش الفعل الإنساني، كأن تخلق لها عالماً موازياً تنتقي فيه ما يتناسب مع ذوق أو مزاج أو قناعات مشتغليها.
.
هذه الحالة الهلامية لأي مشهد ثقافي، يجب أن تُقرع حولها أجراس اليقظة، لبث روح جديدة تعي أهمية الدور الثقافي في إنتاج المكملات الغذائية الفكرية والمعرفية ومضادات الهشاشة الثقافية، هذا إذا اقتنعنا بأن الثقافة هي حائط الصدّ الأول للهوية الوطنية للصمود في وجه موجات العولمة وتياراتها العابرة للحدود العقلية قبل المكانية.
.
ولِمَن يتابع الجهود السعودية في مجال التنمية الثقافية والاستنفار الحاصل على صعيد ربطها ربطاً عضوياً برؤيتها للمستقبل، سيستشعر الحاجة الملّحة لتنشيط دور الثقافة في بناء، ما يسميه العالم اليوم، بالاقتصاد الإبداعي، وضمّه لشرايين تنويع الاقتصاد الوطني.
.
وللمتشككين في العائد المادي للاقتصاد الإبداعي القادم من رحم النشاط الثقافي، فقد بلغت مساهماته في الاقتصاد السعودي 35 مليار ريال، بما يعادل، 1.5% من الناتج المحلي غير النفطي، كما ذكره آخر تقرير أصدرته وزارة الثقافة السعودية.
.
وهو بالمناسبة، خامس إصدار للتقرير السنوي المُعدّ من قِبل الوزارة ذاتها، لتحليل الحالة الثقافية بمنهجية موضوعية، تلتزم بالتنوع الشامل والعادل للمكونات الثقافية، فلا غلبة لجانب على جانب آخر، أي أنه من غير المقبول أن يطغى لون ثقافي، كالفن التشكيلي والمهرجانات الموسيقية، على غيره من الأصناف، كالنشر والترجمة لتسويق الإنتاج الأدبي «عالمياً»- مثلاً.
.
والمهم في موضوع التقرير السعودي، أنه وضع الحالة الثقافية على طاولة الفحص المجهري، لتقييم جاهزيتها في استيعاب عناصر الاستدامة، بهدف تأمين تدفّق إنتاجها الثقافي، الذي يجب أن يكون بدوره -أي الإنتاج متضمناً لمتطلباتها، وأقصد هنا الاستدامة.
.
وللتوضيح، فإن أكثر المجالات حاجةً لهذه المسألة، هو مجال التراث الثقافي، لحمايته من الاندثار والنسيان، إما بسبب التعريات البيئية أو الغارات الثقافية الخارجية التي تستغل حالة الخمول في الهوية التراثية، ومثال على ذلك، ما يتعرّض له التراث غير المادي، من هجمات تتمثل في شدّ وجذب حول الأحقية في الهوية.
.
ويشير التقرير السعودي إلى مسألة جوهرية أخرى، تستدعي التفكير فيها بشيء من التأني، وترتبط بقدرة المجتمعات على جعل الثقافة منصّة حيّة لاحتضان وتنشيط صناعاتها الإبداعية، ليأتي المنتج الثقافي، في مجموعه، مُعبّراً عن الهوية والشخصية الوطنية، وللثقافة في ذلك، لمساتها السحرية وأدواتها الناعمة، ولا يضاهيها في هذا الدور إلا التعليم، وما أدراك ما تأثير التعليم، إن أجاد دوره في تحصين الهوية وحفظ الطابع العام للشخصية الجمعية.
.
والقصد من تحصين الهوية من المؤثرات الخارجية، ليس لحبسها في أدراج الماضي السحيق والعيش على أمجاد ما قدمته مجتمعاتها عبر التاريخ، وإنما عبر إتقان التوازن الصحي، الذي أشار إليه ملك البحرين المعظم في خطابه السامي لدى افتتاح أعمال المجلس الوطني، لأهمية ضبط التفاعل مع العالم المتمدن للأخذ بما سينفع، ودون أن يتعارض ذلك، مع مصفوفة القيم المشكّلة للهوية، والنابعة من عمق التكوين المجتمعي.
لذا تبقى الثقافة بما تمتلكه من أدوات فاعلة على المستوى المعرفي والفكري أكثر القطاعات نباهة واستيعاباً لأي متطلب من متطلبات التغيير الاجتماعي، مهما كان حجمه، هذا إلى جانب حاجتنا للياقتها العالية، لتستمر في تجديد ذاتها.. لهدف النهوض الأكبر.
.
خاطرة أخيرة
للبحرين خطوة موفقة في تسجيل «فن الفجري» على قائمة اليونسكو التمثيلية للتراث غير المادي، ويبدو بأن هناك خطة حالية لتسجيل عناصر إضافية، كالخيل العربي، والشعر النبطي، والسنبوك (مراكب الصيد والغوص)، والفخّار والخزف، وعلى ما يبدو أيضاً، فإن المنافسة شديدة، وتتطلب الكثير من الاستعداد والتحضير.
وفي كل الأحوال، تبقى قدرتنا على صون التراث الثقافي، هي مربط الفرس، لضمان استدامة ما نملك من ثروة تراثية - ثقافية ذات قيمة معنوية هائلة للأجيال القادمة، لتبقى مرتبطة بجذورها، ولا بأس بعدها من الصعود إلى القوائم العالمية.
* عضو مؤسس دارة محمد جابر الأنصاري للفكر والثقافة