كم منا يتذكر أزمة رهائن السفارة الأمريكية -في إيران- التي استمرت لـ444 يوماً، وتزامنت مع قيام الثورة الإيرانية في 1979؟
الأزمة التي أشعل شرارتها مجموعة من الطلبة الإيرانيين المتمردين المأسورين بفكرة الثورة المقدّسة، والمتوهمين بأن البطل القادم من الغرب سيؤسس مدينتهم الفاضلة، وسيقضي على الفقر والفساد والاستبداد، وسيعطي، ذات الغرب الذي استضافه لأعوام، درساً لن ينساه في معنى الإرادة والاستقلال الوطني الرافض للهيمنة الغربية وتلاعبها في مقدّرات الشعوب ومصائرهم!
ولِمن عاصر حالة الاختطاف تلك، يتذكر كيف فرض الحدث نفسه بقوة على المشهد العالمي والأمريكي تحديداً، الذي جاء على طبق من ذهب لكسب الوقت، بينما ترتب الجمهورية -المرتقبة- أولوياتها لتثبيت شرعيتها، وحشد مواردها نحو المَدّ العقائدي والانتشار الثوري لترسيم خرائط الهلال الشيعي.
وفي ذلك الوقت، كان العالم منشغلاً بحقبة متواترة مليئة بالأحداث السياسية المفصلية التي مهّدت الطريق لقيام عالم أحادي القطبية، الذي، ولسبب ما تجاهل هيمنة الجمهورية، ذات الرومانسية الثورية، على معابر النفط، والمتجه نحو صيغة صارخة من الحكم الثيوقراطي - الكهنوتي، ليقضي، كما أثبت التاريخ، على آمال أبناء الثورة، المستنيرين منهم طبعاً، في المشاركة ضمن مشروع سياسي شامل يحتضن التعددية بتنوعها الفكري، ويُعيد لهم الكرامة والحرية والعدالة، كما كانوا يتصورون.
وهذا الحكم الذي رفع راية «الموت لأمريكا» لدغدغة مشاعر الشعوب الثائرة، انخرط سريعاً في حرب الخليج الأولى، ليبدأ «جيش الله»، المعروف بالحرس الثوري، فتوحاته العسكرية على خطى كسرى العائد للمنطقة، وباسم الجهاد في سبيل الله!
فإيران، كما يصفها المفكر محمد جابر الأنصاري، دولة لا تقنع بالبقاء داخل حدودها، ويحرّكها، حيال ذلك، الحافز القومي الشعوري التاريخي المتصل بالأمجاد الإيرانية الغابرة، و«سياسة صدور انقلاب إسلامي»، أي سياسة تصدير الثورة الإسلامية خارج حدودها، المنصوص عليها دستورياً!
وعلى مدى أكثر من أربعة عقود، أي منذ قيام الثورة، عرفنا حالة اختطاف من نوع آخر، والمُختطَف الأول هو مصير المنطقة بأسرها، ومعه كيان الدولة القطرية، التي لا تسلم من الهجمات «الرعوية» المتكرّرة لنخر أساسها، وتجريدها من سيادتها، وتملّك ولاءات مواطنيها لتحولهم إلى خونة دائمين، وغير قادرين على الاندماج في تربتهم وبيئتهم الأصلية.
ومع قتامة هذا الواقع الذي لم يأتِ لا بمدينة فاضلة، ولا باستقرار، ولا حسن جيرة، هل سنصحو يوماً ما، على سياسة إيرانية تُعيد ترتيب أوراقها وحساباتها، وأهمها، ردع وكلائها عن عبثهم البربري المتّجه للهاوية، والالتفاف نحو خيارات لم تجرّبها بعد، بحثاً عن الفرص الكثيرة والضائعة من المصالح الذهبية بين ضفتي الخليج؟
لا يبدو بأن هذا الخيار وارد بحسب ما تفرضه الأحداث المتسارعة من تضارب بين الأقوال والأفعال، إذ تتجاهل إيران تماماً، عوامل الأخوّة الدينية، والقرب الجغرافي، وإمكانية أن يتحوّل حوض الخليج إلى أحد أكثر المعابر البحرية أمناً وأهمها استراتيجياً على صعيد التجارة العالمية، مع استمرار الموقف الإيراني في اعتبار منطقة الخليج ساحة لتمددها، وتجاهلها الواضح لترميم علاقات الصداقة مع دوله، على الرغم من النيات الصادقة التي نرى بوادرها وإشاراتها الإيجابية من الجانب الخليجي للتفاهم حول عودة العلاقات.
وهي عودة، يجب أن تكون مشروطة بعدم التدخل في شؤون الطرف الآخر، وعلى وجه التحديد، ما تعلّق بخصوصية تكوين مجتمعاتها واتجاهاتها، سياسية كانت أو عقائدية.
عندها فقط، ستكون إيران أول المستفيدين من الفرص المكنونة على ضفاف الخليج العربي، هذا إذا أرادت أن تطوي صفحات من تاريخ طويل من الاستعداء الفكري ونتيجته المؤدية للتنافر النفسي وانعدام الثقة وضياع الفرص.