من الواضح بأننا نسير في عكس اتجاه حل الأزمات التاريخية التي تعاني منها أمة الإسلام وتزيد من فرقتها وتشتت صفوفها، ومن دون شك، فإن أحداث هذه المرحلة المصيرية من عمر الأمة تتطلب إرادة حديدية وفكراً مستنيراً للنفاذ لعمق مشاكلها العالقة، لأننا، وعلى ما يبدو، لم نحقق ما يلزم للتحرر من هذه الحالة المزمنة.
ولا ننكر أو نتنكر لكل المحاولات الجادة والهادفة لاستعادة العافية المفقودة وشيء من الصحوة الحضارية لتخليص الوعي والضمير من أعبائه التاريخية التي تقسّم أمتنا الإسلامية، بسيوف الفرقة ورماح الفتنة، إلى معسكرات وخنادق وجبهات، كي تحافظ على ما تيسّر من التضامن والتآلف والتراحم، كأصل وأساس، لسلامة ومتانة العلاقة بين المسلم وأخيه.
ونجد بأن إجراء المراجعات الضرورية لإنقاذ هذه الرابطة الأخوية، هو أولوية ملحة وساخنة، كسخونة ما يُثار من شعارات تجاوزها الزمن وطوتها صفحات التاريخ الإسلامي على أيدي مصلحيها خوفاً من انحراف بوصلة المسلمين عن ركائز الدين وجوهره القائم على وحدة القلوب قبل الصفوف، وحفظ كرامة الإنسان وتخليصه من المظاهر الوثنية، وأولها، الإقرار بأن القداسة والعصمة هي لله وحده، وليست لأي بشر دونه.
وعند هذه الحقيقة، التي ينبه لها المفكر الإسلامي فهمي هويدي بكثير من التفصيل في كتابه الشهير «القرآن والسلطان»، وليقولها صراحة: «بأن ليس من حق أحد أن يزعم بأنه يتمتع بحصانة إسلامية خصته بها السماء من دون المسلمين، فرفعته فوق الرؤوس، ونزهته عن النقد والسؤال، وأحاطته بسياج من العصمة والقداسة»، يستمر وللأسف، كهنوت العصمة والقداسة بإلقاء ظلاله القاتمة على العقل الإنساني، بعد أن اكتشف مدّعيها ومروجيها بأنها تجارة رابحة، وإن كانت خسيسة، لاستعباد واستغلال العباد في تغذية الصراع والتناحر بين هذا المعسكر وذاك.
والمخيف في موضوع القداسة والتقديس لغير الله، هو عندما يبدأ «المقدس»، بالسماح لنفسه بالحديث باسم ملكوت السماوات والأرض، لإشاعة ما يؤدي للتنافر ويثير الفتن ويضلل أبناء الأمة الواحدة. ونماذج هذا العبث في تزايد، وتلقي بالوزر على من يريد أن يقدم «الصورة الصحيحة» والقراءة المتأنية للإسلام، ليُطبق تطبيقاً متحضراً ومتلائماً مع روح دعوته، التي قُصد منها تحقيق التوازنات الدقيقة بين إقامة الدين القويم وإعمار الأرض وصلاحها.
ولتصحيح مثل هذا الوضع الشائك والمربك، فإن الإجماع على «كلمة سواء»، يجب أن يبدأ بين المسلمين -أولاً- كحكم واجب عليهم، أمام الله ورسوله، لوضع أسس التقريب بين أصحاب المذاهب المختلفة، فلا يعود للجدل والنزاع مكان بينهم، ولا تُشّهر السيوف، مهما اشتدت الظروف، في وجه الخلاف أو لمعالجة الاختلاف، وعندها فقط، سيتمكن أتباع الدين الواحد من إيجاد وإقرار القواسم المشتركة بينهم وبين الأديان السماوية الأخرى والثقافات المختلفة، لتحقيق التقارب والتعايش الذي يطول البحث عنه حتى يومنا الحاضر.
وإذا كان الرب واحداً، والدين واحداً، ونبينا واحداً، والقبلة واحدة، فلماذا إذن، لا نقوى على حل أزماتنا التي تُرفع باسمها ومن أجلها الرماح، بمناسبة وغير مناسبة؟ ولماذا لم تؤدِّ الجهود الكثيرة لتجاوز الخلافات المذهبية لأي نتيجة تُذكر؟ وما هو السبيل للنجاة من آفة التبعية العمياء؟ وكم تبعد بنا المسافات عن إعمال العقول كحصن أخير في وجه ما يربك استقرار بيت المسلمين؟
لا أملك الإجابة على تلك التساؤلات، ولكن إذا كان هناك بصيصٌ من نور للخروج من نفق العتمة، فهو النداء الحكيم والتوافق المشترك بين حضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة ملك البلاد المعظم، وشيخ الأزهر الشريف ورئيس مجلس حكماء المسلمين، د.أحمد الطيب، لإقامة مؤتمر للحوار الإسلامي – الإسلامي، وتستضيفه مملكة البحرين مطلع العام المقبل.
وما أحوجنا في مثل هذا الوقت لبث بعض الأمل في روح الأمة وإبراز طاقاتها العقلية وشحذ إمكاناتها العظيمة النابعة من مدارسها الفكرية المستنيرة التي طالما حاربت التعصّب والتشديد والغلو في الدين، وها نحن نعوّل على مثل هذا الحدث الرصين بتوجهاته النبيلة، ونتطلّع لدوره في إحياء مسارات الحوار، وفي استحداث آليات أكثر فعالية لتقريب المسافات بين مفكري وعلماء الأمة وبين ما يحفظ وحدة المسلمين كسبيل وحيد للتعايش مع الآخرين.