تذكرت رعونة حماس وأنا أقرأ تساؤل محمود المهيني في الشرق الأوسط أمس في مقالة بعنوان "ثوريون في الخليج"، "لماذا يردد البعض الخطابات الثورية في الخليج؟ وما الهدف من تجييش الناس "مقيمين ومواطنين" في دول الخليج لترديد الشعارات الثورية؟.... دول الخليج هي دليل على الأرض على عكس كل ما يقوله الثوريون. هي الجوهرة الباقية في متجر محطم. نجاح دول الخليج يعود إلى أنها استمعت إلى نصائح الثوريين وتجاهلتها تماماً. استبعدت الخطاب الثوري العاطفي واعتمدت الخطاب الواقعي العقلاني حتى في أصعب الظروف وأحلك الأزمات وفي ذروة التحريض عليها وابتزازها "العميلة للغرب... المتواطئة معه" بهدف تغيير نهجها السياسي".
تتعامل الدول الخليجية مع القضية الفلسطينية بذات العقلية التي بنت بها دولها، عقلية تقف على الأرض لا تنطلق من الفضاء، عقلية لها مرجعية الممكن لا المفروض، تتقدّم بمبادرة حل الدولتين، تُقدّم المساعدات للشعب الفلسطيني المادية منها والدبلوماسية، تربط كثيراً من مواقفها السياسية مع مصلحة الشعب الفلسطيني، والعديد من الفلسطينيين يقبلون بهذا الطرح ومنهم السلطة الفلسطينية.
إنما حماس مثال صارخ على العقلية الثورية ذاتها التي تنطلق من أرضية ما هو مفروض لا ما هو ممكن، وتُهاجم دول الخليج و تنعتهم بالتصهين، هذه العقلية قامت بما قامت به في السابع من أكتوبر من أجل تحرير مجموعات من مقاتليها الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية وهو هدف مشروع ويعتبر خطوة في سبيل إنهاء الاحتلال كما تقول حماس، إنما كانت خطوة غير مدروسة مبنية على شعارات وأوهام لا علاقة لها بالواقع وحسبة غير منطقية، فماذا آلت إليه الأمور بعد عشرة أشهر من خطوتها المتهورة، وبعد تشدد ورفض لأي مفاوضات ما لم تُحقّق إسرائيل طلبها؟
كشف تقرير مشترك للأمم المتحدة والبنك الدولي صدر بعد ثلاثة أشهر من أكتوبر، أي في يناير 2024، أن قيمة الخسائر الاقتصادية التي شهدها قطاع غزة، منذ بدء الهجمات الإسرائيلية البرية على قطاع غزة، بلغت حوالي 18.5 مليار دولار، وهو ما يمثّل 97% من الناتج المحلي الإجمالي الفلسطيني في الضفة الغربية وغزة عام 2022.
بحسب المصدر نفسه، بدت الخسائر كما لو أنها تسبّبت في تدمير كافة البنية التحتية وتسويتها بالأرض، فلم يتبقَّ إلا القليل من الأصول التي لم تُمس، مشيراً إلى أن نحو 26 مليون طن من الحطام والركام خلّفتها عمليات التدمير الناجمة عن القصف الإسرائيلي، في حين تشير التقديرات إلى أن إزالتها تستغرق سنوات.
وفي السياق نفسه، أشارت الأمم المتحدة والبنك الدولي إلى أن أكثر من نصف سكان قطاع غزة باتوا على شفا المجاعة، كما يعاني كامل السكان من انعدام أمن غذائي وسوء تغذية حادين، موضحة أن "نحو مليون شخص في غزة بلا مأوى، وأصبح 75% من السكان مشردين".
كذلك، قال التقرير إن للحرب "تأثيرات تراكمية كارثية على الصحة الجسدية والنفسية ضربت بشكل شديد القسوة النساء والأطفال والمسنين وذوي العجز، وتوقع أن يؤدي هذا إلى عواقب مدى الحياة تتعلق بنمو أطفال اليوم في القطاع الفلسطيني".
وتابع: "مع الضرر أو التدمير الذي طال 84% من المرافق الصحية في غزة ونقص الكهرباء والمياه لتشغيل المرافق الباقية، أصبح السكان يعانون من نقص الوصول إلى الرعاية الصحية وإسعافات إنقاذ الأرواح".
وأضاف "امتد الانهيار إلى نظام المياه والصرف الصحي في غزة، الذي أصبح أقل من 5% من قدرته السابقة، وبات السكان يعتمدون على حصص مائية محدودة تعينهم على البقاء".
وأكد التقرير أن "نظام التعليم في غزة أصابه الانهيار التام، إذ بات 100% من الأطفال خارج المدارس بسبب الحرب". "انتهى".
فجأة أصبحت حماس مرنة في المفاوضات بعد أن كانت متشددة، وقبلت بنقاش العديد من النقاط التي كانت ترفضها في البداية، فهي مستعدة الآن لمناقشة إطلاق سراح عدد من الرهائن قبل انسحاب الجيش الإسرائيلي، بل قبلت بالنقاش حول الحكومة المؤقتة في غزة!!
أي أنها عادت إلى المربع الأول، بل إلى ما قبله، إضافة إلى 32 ألف قتيل، وتلك الخسائر التي تحتاج إلى عقود حتى تُستعاد، من بنية تحتية، وصحية، وتعليمية، وبيئية.
هذه العقلية ليتها لم تنفع الفلسطينيين فحسب، بل ألحقت بهم أضراراً لم يُلحقها بهم عدوهم المحتل... ومؤيدو حماس من الخليجيين يعتبرونها مثلهم الأعلى.. بئس للاثنين.