زيارة الدولة التي قام بها الرئيس الروسي قبل أيام قليلة لبكين بالتزامن مع بداية ولاية جديدة من حكمه تمتد لعام 2030، هي واحدة ضمن عشرات الزيارات المتبادلة بين القوتين الشرقيتين منذ اندلاع الحرب الأوكرانية وتواصل الضغط الغربي والعقوبات الاقتصادية على هاتين الدولتين، التي لا يبدو أن مفعولها قد نجح في إذلال الدب الروسي ليتقهقر جيشه، ولا بكتم أنفاس التنين للتخلي عن دوره في توجيه مجريات المشهد العالمي.
والزيارة المكوكية للرئيس الروسي والترحاب المهيب الذي جاء من الدولة المضيفة قُصد منه تثبيت المواقف التي لن تحيد عنها الأمتان وهي تحدد صيغة مكانتها العالمية، دون اكتراث، على الأقل في الوقت الحاضر، للضغط الغربي القادم كرد فعل متوقع لهذه الصداقة المثيرة للقلق!
أما بالنسبة لمجالات التعاون التي يسعى لها الطرفان، فحدّث ولا حرج، والخلاصة التزام روسيا بمواصلة تزويد مصنع العالم «الصين» بالغاز الذي توقفت إمداداته لأوروبا، ويقابل ذلك التزام صيني بتزويد الترسانة الحربية الروسية بكل ما تريد.
هذا ناهيك عما وجهته الزيارة لجميع المتوجسين والمهتمين من رسائل صريحة وضمنية، ولعل عنوانها الأبرز عزم العملاقين على استكمال بناء نموذجهما الفريد لشراكة متعددة الأبعاد والمستويات، ولا سقف لها إلا السماء ذات البروج.
فالقوميتان تعملان دون توقف عبر ما تمتلكان من قدرات متفوقة، اقتصادية وعسكرية وصناعية وتقنية، على حجز حيز أكبر ضمن ميزان القوة العالمية، والمجال الفضائي على ما يبدو، ليس باستثناء، فهناك اتفاق مشترك على إنشاء محطة أبحاث «قمرية» لتوليد الطاقة النووية وغيرها من الأغراض البحثية ذات الفائدة لمستقبل البشرية.
وتشير أغلب التقارير التي تتابع عن كثب هذا الدفء في العلاقات بين موسكو وبكين، إلى أن ما يحرك هذا التعاون الاستراتيجي نحو «العصر الجديد»، هو إصرار الجانبين على إجراء تغييرات جوهرية لم تحدث على مدى قرن كامل من أجل عالم متعدد القطبية. ومؤشرات هذا المخطط طويل الأمد والنفس تستمر بالتشكّل في الأفق العالمي، وتغذيه بالطبع المشاعر القومية والأيديولوجية والخلفية التاريخية للقوتين الشرقيتين التي تدفع بهما دفعاً للتمرد على الهيمنة الغربية.
والراسخ على مشهد التعاون الدولي لهذا التحالف الصاعد، أن وحدة صفه لها اعتباراتها وأسبابها التي ستقويه أكثر وأكثر، فالمشتركات عديدة والتهديدات واحدة والتحديات متشابهة، ليتزايد تمرد الدولتين «المنظم» في وجه الغرب، وليتزايد اعتمادهما على مواردهما الذاتية لتوطين مدخلات التنمية وتعظيم مخرجاتها لتتنوع وتتعدد خيارات سلة الاستهلاك - التوريد العالمية.
وقد تكون إحدى نتائج تلك الاستقلالية الاقتصادية تأخر انهيار الاقتصادين الصيني والروسي على الرغم من تكثيف العقوبات الاقتصادية الغربية إلى درجة التفكير في فرض المزيد منها. فالملاحظ أن الدولتين قد تمكنتا من الاستدارة بكل رشاقة حول تلك العقوبات تخفيفاً لآثارها، ووصلتا إلى حد فرض سياسات عقابية «غير معلنة»، كوقف تصدير بعض منتجاتهما إلى الجانب الغربي، في الحالة الصينية على سبيل المثال، وتحديداً، المستلزمات الطبية والدوائية، أو باستحداث أنظمة وقنوات مالية – مصرفية بديلة ومربكة للشكل السائد للنظام المالي العالمي، وينضم إلى مثل هذا التوجه عدد من الدول ذات الثقل الآسيوي التي تعتبر النظام الاقتصادي الرائج أقل عدالة وكفاءة وأكثر احتكاراً وتحكماً، وآن الأوان للتفكير في الاستقلال عنه.
إلا أن هيمنة السياسة الواقعية لبسط النفوذ من منظور أحادي على طبيعة العلاقات الدولية، والبعيدة كل البعد عن المثالية الأخلاقية في العمل الجماعي، تجعل من التفاهم بين القطبين، ومحوره الأبرز المكون من أمريكا - الصين- روسيا أضعف احتمالاً، وعلاقاته أكثر بروداً وأشد تأرجحاً، والمحصلة إرباك النظام العالمي وإضعاف التعاون الدولي وتشويش اتجاهات الدبلوماسية الهادئة المراعية لمصالح جميع الأطراف.
وبعيداً عن التخمين في مستقبل تلك العلاقات، علينا البحث شرقاً عن تأثير هذه التحالفات على الواقع العربي، فما الذي نتوقعه من موسكو وبكين تجاه قضايا المنطقة خلال الفترة المقبلة؟ إذ لم تستثن شراكتهما التي «لا حدود» لها، التنسيق فيما بينهما لدعم القضية الفلسطينية سعياً لحلحلتها وحلها، وللتأثير إيجاباً على مسار الحلول السياسية لتحقيق السلام المأمول، إلى جانب حرصهما على إظهار حسن النوايا والرغبة الشديدة في دعم الاستقرار والأمن والتنمية عربياً.
فالحلف الصيني - الروسي يتجه، دون هوادة، لتوظيف دبلوماسيته المختلفة في طرحها ومقاربتها لمعالجة تعقيدات المشهد الشرق أوسطي، وعلى الأخص، الدور الصيني الإيجابي تجاه العالم العربي لتعميق التفاهم والتقارب بين الجانبين، وما نشهده من تنامٍ لتلك العلاقة سواء على الصعيد الثنائي، أو على طريق التعاون الجماعي مع الدول العربية ككتلة اقتصادية واعدة.
وأبلغ تلك الصور في طبيعة التعاون العربي - الصيني، هو منتداه المشترك الذي سيحتفل قريباً بمرور عقدين على تأسيسه، ليحتفي كذلك بالنضج الواضح على تلك الشراكة بمخرجاتها المبشرّة، والتي تتجه لأن تكون «رابطة للمصير المشترك، بين الأمتين العربية والصينية، في العصر الجديد».. على حد قول الرئيس الصيني.
* عضو مؤسس دارة محمد جابر الأنصاري للفكر والثقافة