تجاوزنا الأربعين منذ سنين وهنا يدخل الإنسان مرحلة النضوج ولم يبقَ منه سوى الذكريات. أنجزتُ فيه أشياء كثيرة أطلقتُ على بعضها ملاحم وبعضها بطولات وبعضها هروباً إما للخلف أو هروباً للأمام، وأصدرت كتاباً أتخيلُ فيه وجه أمي قبل وفاتها. وذرفتُ فيه دمعةً لرحيلها، وأيضاً الزمنُ سلب مني ضِعف ما وَهَب وفرّقَ أكثر ممّا جَمَع.. وأتذكّرُ دائماً بعض أصدقاء الطفولة، وأتذكّر الممثلة النمساوية رومي شنايدر وعيونها الساحرة التي تخيّلتُ أن تكون تلك العيون يافطة لشهرتي عندما كتبتُ عنها مقالاً قديماً، والممثلَ رشدي أباظة، والممثلةَ هند رستم، ولاعبَ كرة قدم ألمانياً اسمه بيكين باور، وآخرَ لاعبٍ برازيلي اسمه رفلينو، وذكريات عربية بائسة منها ذكرى إلى ناس سَرَقَتهم من الدنيا المفخّخات والأحزمة الناسفة وكواتم الصوت وما سُمّي بثورات كانت يافطة للقتل دُمِّرت من خلالها دولٌ ومُدنٌ، وذكريات فيه حزناً على ما تبقّى من ذكرياتنا التي نقشناها في جدران العقول؛ ولكن راقبت الأحداث بعد تلك الذكريات، وتخيّلتُ العالم في عولمته الجديدة. أعجبني ليلُ المنامة وهو يقترب من عصر الأساطير وشواطئُ خلجانها، وأعجبتني النهضةُ الخليجية وبعض الدول العربية، وحزنتُ على لبنان والعراق ودمشق، ورغم كلّ هذا لم يفُتني أن أضحك أحياناً على بعض طواويس الأدب الفارغين، وعرفتُ متسلّقين تسكنهم أمراضٌ من خلال قراءة نصوصهم، فيما رفعتُ القبّعة لنصوص رائعة لأقلام مسكينة منزوية ولكنها تكتب بجدارة، ولكن ليست لهم مقومات حتى يتنافسوا مع الـ"واو". وأقول لمن تجاوز الأربعين إذا لم يستخفّ بكَ أحدٌ لغاية هذا اليوم فلن تكون في يومٍ ما رقماً في معادلة الحياة. أمّا أنا فحرصتُ على أن أعيشَ البساطة بكلّ أنواعها وأقرَأَ القصائد اليومية وأنفُضَ الغبارَ عن بعض الكُتُب التي قرأتها وأبتسمُ ابتسامةً مُغلّفةً بنبض قلبي إلى الذين أُشاركهم صناعة الحياة، وبالطّبع دون أن أكون خفّاشاً في الليل أو ببغاء في النهار حاقداً وماسكاً بالرفش والمطرقة أبحث عمّن أساء لي كي أُمزّقَ الماضي في ملامحه. وبقيتُ بعد الأربعين بل أكثرت من انضمامي لكُتُبي ومقالاتي منذ شبابي دون إصابتي بمرض البحث عن النجومية الزائفة، وأعلمُ جيداً أن الحِكمة تحتاج إلى قناعة أجفاننا وإلى جهد قلوبنا؛ لأننا عاصرنا ومازلنا نتعايش مع من يدّعون الثقافة ولكنّهم يعيشون بين العقدة والطاووس وبين الكهرمانة وصوت العصافير، ومصابون بالوهم والعاهة النفسية التي تمنعهم من التواضع والاعتذار.

ورغم أن الله لم يحرمني من الحصول على الجوائز الأدبيّة ولكن لن يصمتَ صوتي ليكون ظلّاً عازفاً لأحلام الشباب فهو وفاء لعمرنا بعد الأربعين والخمسين، فنحن نحتاج إلى كلّ هذه الذكريات حتى نبقى نعيش نشوة انتصارنا على تلك الأرقام التي تسمّي عمري تجاوز الأربعين والخمسين و.. و.. و..!!!!!