أكثر ما يصدم الإنسان في حياته بالحزن والأسى عندما يفاجأ بوفاة عزيز عليه، وله حق عليه منذ الطفولة، خاصة مع بدء الدراسة الابتدائية في الصفوف الأولى من حياته الدراسية، أنا أحد التلاميذ في المدرسة الغربية «أبو بكر حالياً» عام 1948، بعد أن قضيت سنة وعمري خمس سنوات في عهدة المطوعة أمينة الدوسري، أم راشد بن داود الدوسري، ثم الدراسة في المدرسة الدينية بفريق الشيوخ في المنامة، وهي غير بعيدة عن قصر وسكن المغفور له الشيخ محمد بن خليفة آل خليفة، طيب الله ثراه، وتولى الحكم من بعده وسكن نفس القصر المغفور له الشيخ علي بن خليفة آل خليفة، طيب الله ثراه، رحمهم الله تعالى وأسكنهم فسيح جناته، وهذا القصر من بعد ذلك تحول إلى مقر لأول بلدية بالمنامة، وقريبة جداً من منزل والدي.

الدراسة في المطوع ومن ثم في المدرسة الدينية، تختلف اختلافاً كبيراً عن الدراسة النظامية الحديثة، تربيةً وتعليماً ومنهاجاً، ومن حسن حظي وحظ أترابي من التلاميذ، أن يكون مدرسونا على درجة كبيرة من التربية ووسائل التعليم الحديثة، خاصة دراسة الرياضيات واللغة العربية واللغة الإنجليزية والرياضة والتربية البدنية، والعلوم الرديفة التي تناسب التطور الحضاري المبكر للبحرين، دراسة يتولاها مدرسون أكفاء أمثال الوجيه والمربي الخلوق محمد صالح عبدالرزاق القحطاني وأترابه من المدرسين الأوفياء مثل سلمان عبدالله الجاسم وسلمان الصفار وسلمان الصباغ وأحمد المهزع وخليفة الرميحي ومحمد أحمد كمال، ويأتي في قمة المربين المرحوم مدير المدرسة الغربية حسن جواد الجشي، وكوكبة من المدرسين من دول عربية مثل مصر ولبنان وسوريا وفلسطين.

مدرس اللغة الإنجليزية كان الأستاذ محمد القحطاني، وكانت هذه اللغة تدرس من الصف الثاني الابتدائي، ومدرس الإنجليزي الثاني الأستاذ سلمان الصفار، والمرحوم محمد القحطاني، له طريقة عبقرية في تلقين التلاميذ الصغار المبتدئين، هذه اللغة الأجنبية كتابةً ونطقاً، وكنا نخاف ونتوجس الخوف منها، وأن النجاح لن يحالفنا، وبعض منا أصابهم نوع من الفوبيا من هذه اللغة، لكن هذا الأستاذ الموهوب محمد القحطاني، وجه إلينا في أول حصة سؤالاً «مَن يعرف إنجليزي»؟!، الصمت خيم علينا، وأدرك هو بفطرته ماذا يعني صمتنا، وأردف قائلاً «سأوزع عليكم كتاب الصف الثاني الابتدائي وهو كتاب من الكتب الهندية المطبوعة في بومباي التي تدرس في الهند، ويشتمل على الكلمات الإنجليزية مشفوعة بالصور التوضيحية الهندية، مثلاً رجل هندي بثيابه الهندية التقليدية القديمة يشرب الماء، ومن تحتها كلمة «drinking water»، وهكذا صورة وكتابة بالحروف الكبيرة الإنجليزية، يقرأها الأستاذ محمد القحطاني، ويترجمها لنا، ويطلب منا ترديدها ثلاث مرات بصوت مرتفع، وكأننا في جوقة موسيقية؟!

ولم يزد في الدرس الواحد عن ثلاث كلمات وترجمتها، ولم يدرسنا في الحصة الأولى أبجدية الحروف الإنجليزية، لكن الكثير منا عرفها بالتكرار عن طريق النطق وكتابتها بالنسخ حسب ما هي مكتوبة في الكتاب. وهكذا سهل على الكثير منا كتابتها ونطقها.

لم أره في أثناء دراستي المدرسية الابتدائية حاملاً عصا في يده، ودائماً يخاطب التلاميذ بكلمات حانية تنم عن التقدير والاحترام لهذا التلميذ الصغير، وإذا أخطأ التلميذ في رسم الحروف أو النطق ناداه «تعال يا وليدي، ليش ماحفظت، وليش ماكتبت الحروف كما في الكتاب؟»، ويقبل رحمه الله من أي تلميذ أي عذر يلجأ إليه هذا التلميذ ولا يعنفه ولا يعبس في وجهه، بل يشرح له من جديد، وهكذا غرس فينا حب اللغة الإنجليزية وعدم النفور منها، ولم ينتهِ العام الدراسي الأول إلا ونحن جميعاً ناجحون، ولو تفاوتت درجاتنا بين ممتاز وجيد جداً وجيد ومتوسط، وعندما كبرت أنا وتخرجت من الثانوية العامة وعملت وتزوجت تذكرته بالذكرى الطيبة، وأسلوبه في التدريس، وطبقتها على أولادي عندما أساعدهم على الواجبات المنزلية، وما أكثرها خاصة في العطلة الصيفية ذاك الزمان، وأثناء الدراسة طوال العام.

الأستاذ الوجيه محمد القحطاني كان مولعاً بالكشافة ومن قادتها المخضرمين وتولى رئاستها من بعده المرحوم سيف المسلم، وتخرج على يديه كوكبة من القادة والتلاميذ الكشفيين ونالوا النياشين الكشفية المتقدمة، واعتزل الكشافة وهو في عز نشاطه وتألقه مفسحاً الطريق لغيره، ومن هواياته القراءة وصيد السمك والتفاعل مع المجتمع. الوجيه محمد القحطاني كان مثالاً للإخلاص والعطاء وخدمة الوطن والولاء للقيادة الرشيدة حفظهم الله ورعاهم وأبقاهم ذخراً وعزاً للوطن وأهله.

وقد وخلف ذريةً وأحفاداً كل منهم على خلق عظيم، مسلحين بالعلم ليواصلوا درب أبيهم، رحمه الله تعالى رحمة واسعة وأدخله فسيح جناته.