عشنا في أزمان كانت كثرت فيها الأمثلة والمواعظ والشخصيات الرصينة التي كانت تقدمها لنا رجالات ونساء عُرفوا بالقدوات في كافة مناحي الحياة، كانوا مثالاً في الصبر ومثالاً في تحمّل المسؤولية ومثالاً في القيادة، وكانوا بحق رواداً لعصرهم تتقبل منهم النصيحة وتأخذ بإرشاداتهم وتعمل برأيهم حتى وإن كانت آراؤهم محل اختلاف وخلاف، إلا أن شخصيتهم وخبراتهم كانت كفيلة برضوخنا لهم والسير على نهجهم.

واليوم نعيش في زمن يبتعد فيه الكثيرون عن القدوات، بل وإن حتى أولئك الذين من المفترض أن يكونوا قدوات باتوا متأثرين بطيش الشباب والمراهقين من الجنسين، الأمر الذي نقل مجتمعاتنا من بيئة ناصحة إلى نقيضها تماماً، باتت عقولنا تردد مقولات تساهم في التفكك والتباعد مثل دع الخلق للخالق، وكل يحمل وزره، وغيرها من المقولات التي تُساهم في زيادة أواصر التباعد وتخلق مجتمعات متنافرة تعاني من التوحد ولا تشعر أو حتى تعلم معنى الترابط.

غزت عقولنا بدعة التقليد، وبتنا نتابع المهرجين من صناع التفاهات عبر وسائط العالم الوهمي، ذاك العالم الذي ساهم في أفول نجم القدوات وأظهر لنا رجالاً مهرّجين لا يحملون من الرجولة سوى ما تثبته الأوراق الرسمية، ونساء تعساء يُظهرن عكس ما يبطنون، تحولنا -نحن المتابعين- إلى مقلدين نتسابق نحو المظاهر ونقترض من أجل البهرجة، ونسافر من أجل التصوير، ونأكل من المطاعم بغية التباهي.

باتت مصاريفنا المادية تزداد لتتبخر في عادات دخيلة لم نعهدها ولم يعهدها جيل آبائنا وأجدادنا، باتت كتابة أسماء المواليد الجدد على الهدايا مصدراً للتباهي، وأصبحت مصاريف الولادة وما بعد الولادة مبالغ طائلة تصرف خلالها أكثر مما تصرف على المولود ذاته لتنميته وتربيته، باتت حفلات الزواج أشبه باستعراض للقاعة والعلب التي تزين طاولات المعازيم تحمل أسماء وعبارات وصوراً تبلغ كلفتها كلفة المهور في بعض الأحيان، ولا تستخدم إلا لأربع ساعات وهي فترة حفل الزفاف.

تطورت الاحتفالات وزادت المناسبات لتتزامن مع كل فصل دراسي ومرحلة عمرية للطفل، وبالتالي زاد معها الاقتراض للزوج والزوجة على حد سواء، وكل ذلك لأجل لقطات فيديو وصور ثابتة يتم عرضها على وسائل تواصل العالم الوهمي، ذاك العالم الذي اقترض الناس من أجله، وعاشوا بين ثناياه، واعتزلوا عالمهم الحقيقي، وبات كل فرد من أفراد العائلة أسيراً وحبيساً لهاتفه ينظر إليه أكثر مما ينظر لأبنائه وبيته ولحاله.

كل ذلك غيض من فيض، لمحة من عالمنا الحقيقي الذي غاب وحل بديلاً عنه عالم الوسائل والتواصل، وهو في شكله تواصل وفي حقيقته مظاهر وفي باطنه تباعد، وفي نهايته خلاف واختلاف وتنافر.

باختصار، وتحديداً لأولياء الأمور من الآباء والأمهات، كونوا قدوة في زمن غابت عنه القدوات، وكونوا مثالاً لجيل قادم لا يعرف من واقعنا الحقيقي سوى مهرّجي مواقع التواصل، وصانعي المحتوى الهابط، فقد اختلت الموازين... ولن يعيدها سواكم.