حين أشاد جلالة الملك المعظم حفظه الله في كلمته التي ألقاها في القمة العربية بجدة بالمساعي العربية الجادة وضعها في أي إطار؟

قال حفظه الله «نجد فيها بوادر مبشرة لبلورة نظام إقليمي متجدد ومتوازن» تلك الإشارة القوية لابد أن نقف عندها لما لها من دلالات تطبع مستقبل العلاقات الدولية بيننا وبين دول الإقليم وبيننا وبين حلفائنا الدوليين.

جلالته وبكل شجاعة أشاد بمبادرات تبلور النظام المنشود، نظام التجدد والتوازن، فضرب مثلاً استئناف العلاقات الدبلوماسية بين المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية الإيرانية على سبيل المثال، وفي استمرار الهدنة الإنسانية في اليمن والجهود الجادة لحل أزمتها، وفي العود الحميد للشقيقة سوريا إلى بيت العرب الكبير، السؤال ما الذي يجمع تلك الأمثلة؟ ما المتجدد فيها وما المتوازن فيها؟

ما يجمع تلك الصور أن جميعها جرت بعيدة عن أي دور أمريكي، بل إن بعضها جاء معاكساً للرغبة الأمريكية مما يرسم لنا ملامح هذا النظام «المتجدد المتوازن» كما وصفه في كلمته.

فاستئناف العلاقة مع إيران والهدنة في اليمن ودعوة بشار إلى القمة كلها جرت بعيداً عن دور بل حتى علم الإدارة الأمريكية، مما يمثل أكثر المؤشرات وضوحاً على طبيعة هذا النظام الإقليمي المتجدد والمتوازن، فهو متجدد في توسيع دائرة الحلفاء ومتوازن في التعاطي مع الجميع بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية التي مازال لمصالحها مكان إنما نحن اخترنا التوازن، وإن اخترنا الحياد فإنه حياد إيجابي كما وصفه فيصل بن فرحان وزير الخارجية السعودي حيث القدرة على جمع الأطراف المتضادة معاً، وهي قدرة لا تمتلكها دول قطبية عظمى، نتحرك على ضوء مصالحنا على خلفية تحالفاتنا.

ما يعنينا أن توافق مملكة البحرين مع طبيعة واتجاه هذه البلورة الجديدة سيحدد شكل العلاقة المستقبلية ويرسم ملامح سياستنا الخارجية المتفقة مع نظام متعدد الأقطاب ومتوازن في التعاطي مع تلك التعددية هو إذاً نهجنا القادم.

كلما أدركت الإدارة الأمريكية مبكراً أن تلك المساعي العربية لبلورة هذا النظام الذي يبتعد عن قطبيتها هي محل إشادة دولنا، كلما كان ذلك من صالح الجميع بما فيها الصالح الأمريكي، خاصة وأن لها مصالح مرتبطة في المنطقة بشكل كبير ليس وجود الأسطول الخامس أو قاعدة كالعديد إلا الوجه العسكري منها، إنما المصالح الأخرى الجيوسياسية والاقتصادية التي كانت تمثل أوجهاً لتلك الروابط أشد قوة وتأثيراً فيما مضى.

بلورة النظام الجديد يعني أن تلك الأوجه العسكرية منها أو الاقتصادية ستكون أضعف مما كانت عليه، خاصة وأن فقدان الأثر والنفوذ وانحساره لن يكون قصراً على منطقتنا، فليس تقليصها للمساعدات الأوكرانية إلا واحدة من صور الإدراك المتأخر لأزمتها وليس امتداد النفوذ الصيني في الشرق الأوسط وزيادة حجم التبادل التجاري بين الصين ودول الشرق الأوسط على حساب الحصة الأمريكية إلا جرساً آخر دق دون أن تقر الإدارة الأمريكية بأن النظام المتجدد المتوازن الذي أشار إليه جلالة الملك المعظم حفظه الله واقع عليها أن تدركه قبل فوات الأوان.

الصفقات السياسية كما الاقتصادية تخرج من بين يديها وينحصر دورها في تأييد ومباركة أية مفاوضات، وإن حدث واعترضت كما فعلت حين دعي بشار الأسد لقمة جدة فإنها تعترض على استحياء دون ذكر للعقوبات «عقوبات قيصر» كما تسميها، والتي لم يعد لقيصر فيها نصيب، حتى هذه الورقة فقدت أثرها خاصة من بعد خطوط أوباما الحمراء التي تحولت لنمر وردي على يده!

هل بالإمكان إعادة عقارب الساعة؟ هل بالإمكان أن تعيد بعضاً من نفوذها الذي فقدته؟ لا أعتقد لأن الأمر لم يعد راجعاً لها حتى لو رغبت، حتى لو قدمت عروضاً مغرية، لأن اللاعبين الجدد دخلوا السوق وحصدوا ما حصدوا وطارت الطيور بأرزاقها.

النظام الجديد المتغير والمتوازن لا وجه قطبياً له، بل عدة أقطاب قابلة للتغير والتبدل وفقاً للملف وطبيعة مصالحه، لم يعد هناك مكان للمحاور المتضادة، في هذا الملف أنت مع روسيا في ذاك أنت ضدها، في هذا الملف أنت مع الهند في ذاك الملف أنت مع باكستان، وما أكثر اللاعبين الآن، لم يعد خافياً تضاعف قوة مجموعة العشرين عن مجموعة السبع، اقتصادياً وسياسياً وحتى عسكرياً، والمفارقة أن الكل مدرك لهذه المرونة إلا الإدارة الأمريكية فإنها مازالت في ضمن نظام يرتكز على جملة بوش الابن «من ليس معنا فهو ضدنا».

بجرأة معهودة جلالة الملك حفظه الله يحدد موقف البحرين من النظام المتجدد المتوازن.