في كلمته التي ألقاها بمناسبة ذكرى ضم روسيا للقرم، صارح الرئيس بوتين شعبه بالتحديات الاقتصادية القادمة. وطرح عدة معالجات ستتولاها الدولة، واقترح على مواطنيه العاملين في مجال الزراعة التقليل من استخدام الآلات للتخفيف من تكلفة الوقود، والاستعانة أكثر بالقوى البشرية. وفي مشهد ترويجي لمواجهة التداعيات الاقتصادية للحرب خرج بوتين إلى الشارع راكباً درجة هوائية في دعوة لتقليل استخدام السيارات. قصة الآلة مع الإنسان هي أكثر من حكاية النهضة والتصنيع، إنها حكاية الإنسان مع تقليل النفقات. حيث يجري تهميش الإنسان، والعمل لتقليل الاعتماد عليه لتوفير أكبر قدر من النفقات.

السجال بشأن الاستعاضة عن الإنسان بالآلة سجال قديم خاضه الفلاسفة الماركسيون، ضد الرأسماليين. بدأ الأمر باستخدام الآلات الثقيلة التي حلت الواحدة منها مكان عشرة من العمال. كانت الحجج حينها تحرير العمال من سلطة القيادات العمالية، والارتقاء بمستواهم العلمي من المجهود البدني إلى العمل الذهني في تشغيل الآلات. وتسريع عمليات الإنتاج، وتقليل التكلفة. قلت أعداد العمال، وقلت بذلك النفقات، لكن بقيت السلطة العمالية لرأس المال. ثم حلت التقنية الذكية التي استبدلت البرنامج الإلكتروني «system» بعشرات الموظفين من ذوي التحصيل العلمي العالي.

التوجه نحو الآلة خلق التعقيدات الاقتصادية والحضرية الحالية. فالتزايد السكاني لا يتوافق مع قلة الوظائف التي تلتهمها الآلات والبرامج الإلكترونية. والموارد الطبيعية وخصوصاً مصادر الطاقة تواجه استنزافاً هائلاص من الدول الصناعية مثل أمريكا والصين ودول الاتحاد الأوروبي. ولها أزماتها الاقتصادية وتداعياتها السياسية التي هي في الواقع سمة القرن العشرين والحادي والعشرين. كما أن ملف البيئة من تلوث وتغير مناخي هو الآخر مقرون بمشكلات الآلة واستفحالها في الكرة الأرضية.

لماذا يهاجر رأس المال الأمريكي إلى الصين ويشغل مصانعها لإنتاج سلعه؟ الجواب ببساطة: لتقليل كلفة الإنتاج. ففي الصين عمالة «رخيصة». والصين لا تعبأ كثيراً بأزمة المناخ في زيادة إنشاء مصانعها. ترتب عن ذلك مشهد دراماتيكي. فأمريكا التي تخوض حرباً ضروساً ضد الصين هي في الأصل الداعم الأول لاقتصادها. والصين تعتبر أمريكا السوق الأكبر لمنتجاتها. وفي الوقت الذي تستثمر أمريكا في اليد العاملة الصينية «الرخيصة»، فإن نسبة البطالة في أمريكا ترتفع سنوياً.

والأساليب التي تفنن فيها رأس المال في تنقيل المصانع والشركات هنا وهناك. وفي اتباع معالجات اقتصادية تقوم أحياناً كثيرة على إغلاق المصانع والشركات أو بعض فروعها، وتسريح نسب كبيرة من العمال. خلقت مبدأ عدم الاستقرار الوظيفي الذي سيتحول مع الزمن إلى نظام على المرء أن يتعلمه. فلم تعد الوظيفة ثابتة أو مضمونة. وصارت النقابات العمالية تواجه تحديات في آلية ممارستها لأعمالها. فعدم استقرار الوظائف والتوسع في العقود المؤقتة لا يتلاءم مع اللوائح والأنظمة التقليدية التي تتابعها النقابات العمالية والمدافعون عن حقوق العمال. إن مستقبل العمال والموظفين محاط بكثير من المرونة التي قد تفقدهم حقوقهم.

وتشير كثير من الدراسات أن التحول الاقتصادي في أساليب الإنتاج وأنواع المنتجات سيؤدي إلى انقراض مئات الوظائف. لكن في المقابل سيخلق آلاف الوظائف. وأنا شخصياً من التيار الذي لا يصدق أن فرص العمل ستكون مضاعفة في المستقبل. لأن التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي تمكن من الاستغناء عن آلاف البشر المؤهلين. ما يعني أن البطالة المستقبلية ستكون أكثر فداحة.

في مراجعتي الأخيرة للبنك، سألني الموظف وهو شاب لطيف في أوائل العشرينيات من عمره: هل جربتي إجراء المعاملة إلكترونياً؟ أجبته: لا لأن المعاملة معقدة وتحتاج بيانات متعددة عن عدة جهات. فابتسم وأجرى المعاملة ببشاشة ولطف. للبنك الذي أتعامل معه ستة عشر فرعاً، في هذا البنك ما لا يقل عن خمسة وعشرين موظفاً وأربعة رجال أمن. يمكننا أن نقول إن المبنى يشغل ثلاثين عاملاً. وحين تكتمل الأتمتة الكونية «التحول الإلكتروني». فإن هذا الشاب اللطيف الحاصل على شهادة عالية في تخصص دقيق مثل البنوك أو المحاسبة أو إدارة الأعمال لن يجد عملاً. وسيكتفي البنك بفرع واحد. وما لا يزيد عن ثلاثين عاملاً.