في زمن التفاهة، وفي أجواء التردّي والإحباط والانكسارات العربية، تسقط المبدئية وتنتصر الانتهازية وتتفشى النفعية، ونظام التفاهة يحاصرنا، حتى أصبح التافهون يتسيدون المشهد، فكأن الهدف النهائي هو إسباغ التفاهة على كل شيء وتحويلها إلى قيمة في ذاتها.

ومن المؤسف أن هذه التفاهة قد انتقلت عدواها إلى بعض المحسوبين على الثقافة، من الذين يفترض أن يكونوا نموذجاً للمبدئية ضد حسابات الربح والخسارة، وبدلاً من ذلك نكسوا رايات المبدئية، ورفعوا رايات الانتهازية التي لا تستحي من شيء، وللتغطية على ذلك روجوا لخطاباتهم التافهة باسم «الواقعية»، تجنباً للمواقف المبدئية بشأن قضايا الأمة ومصيرها والدفاع عن الأوطان، في مواجهة مشاريع الغزو والعدوان، ومن أجل استعادة الثقة في الإنسان العربي وامتلاك القدرة على تشكيل موقف من كل ما يطرح، مما يتطلب الكثير من المعرفة والصدق والشجاعة.

إن الذاتية والمصلحية باتت تلعب دوراً لا يقل خطورة عن الخوف. فالمثقف قد يتردد في مواجهة استحقاقات الواقع ومتطلبات الموقف الفكري والسياسي في بعض الأحيان، خوفاً من مواجهة القوى الاجتماعية والسياسية المحافظة، فيجاريها أو يسكت عنها أو يجاملها، أو ينسحب إلى غياهب الصمت بدلاً من مواجهة قوى التخلف والغوغائية التي تتغلغل في أوصال المجتمع، وتمعن في تزييف وعي الناس وتغييبهم.

إن المثقف لا يكون مؤثراً إلا إذا كان ملتزماً بالتعبير عن حركة التاريخ، ومضطلعاً بمهمة التنوير، ومستقلاً عن الطمع والهوى قدر الإمكان، ولن يكون مستقلاً إذا كان مسلوب الإرادة، وإذا عاش في الركاب صار بوقا، ولا يقل الموقف الانسحاب الصامت من الحياة الفكرية والثقافية عن خطورة اللامبالاة كعنوان للتدمير الصامت للذات. ولذلك لم يكن غريباً، في ظل وضع كهذا، أن تتفشى ظواهر شاذة ومدمرة، مثل التناقض اتساع المسافة الفاصلة بين المبادئ والممارسة وبين القول والفعل، حتى نشأت أزمة ثقة بين الناس وبين هذه الفئة من المثقفين، وهذا ما يفسر أن الجمهور أصبح بلا قيادة واعية فكرية مثقفة لها كلمتها ومصداقيتها، ولذلك أصبح فريسة للقيادات الشعبوية.

ان المعركة اليوم هي معركة الدفاع عن المجتمع واستقراره وتنميته وحريته وحداثته، ولذلك فإن الذي يتخلف عن الوقوف مع الوطن ومصلحته يكون قد تخلف عن أداء رسالته. والمثقف الذي لا يعلو فوق ذاته فيرفض الخضوع لحسابات الربح والخسارة ولا يمتلك القدرة على تصحيح مواقفه في ضوء المراجعة والتقييم، هو مثقف لا يحتاجه المجتمع في الوقت الحاضر.

* همس:

على الهامش الأبيض

أكتب شيئا قابلا للزوال

وحزينا:

عن الطرقاتٍ الخالية من الضجيج

والدخان.

عن المقهى الذي ودع سكانه

ونام.

عن الرسائل لا تصل.

عن المطر لا يهطل

عن التراب فقد رائحته.

عن البناية تسقط فوق رأسي،

ولا تنهار.

عن الذَّاكرة بلا تاريخ

وعن الزهور

بلا رائحة.