من منا لا يذكر المكان الذي ولد فيه والبيت الأول الذي عاش فيه، نعم لا بد من أن هناك علاقة وطيدة وتشابهاً عميقاً وانتماء فطرياً بين البشر والمدن، فالبشر يحملون من مدنهم بقدر ما تحمله مدنهم منهم. ذلك الانتماء الفطري الذي يسهم أولاً وأخيراً في تشكيل هوية الإنسان وهوية المكان كذلك.
عندما أسافر وأزور الأمكنة ذات الطابع الغني بالتراث والتاريخ والحضارة، أعيش حالة من الصمت، وكأنني أنصت إلى ندائها، إلى أبوابها وأسوارها، التي تحمل خلفها أسرارها، حكاياتها وتاريخها الذي يروي قصص أجيال رحلوا بعفويتهم المنغمسة في حرفهم وبرائحة أثواب جداتهم وخطوات أجدادهم الذي كان أكبر همهم كسب رزقهم. أماكن ذات طابع تاريخي قديم يعكس طبيعة سكانه وعاداتهم وأوضاعهم الاجتماعية والتي تتأثر باختلاف المكان وأنواع صناعاتهم وحرفهم وفنونهم والأطعمة التي يطهونها وأسواقهم الشعبية القديمة والبيوت التراثية لإحياء الممارسات الاجتماعية والتراثية والحرفيات لتصبح مقاصد سياحية ومتاحف مصغرة لزوراها.
نعم من منا لا يتخيل هذا، عندما يزور مدينة عتيقة عاش فيها، قهوة الصباح، أصوات الأمهات، خبز الحياة، ورائحة المسك والعود والبخور والعنبر في زاوية ذلك البيت الطيني الدافئ.
إن إحياء ذاكرة المكان بما فيه من تفاصيل كثيرة أمر مهم لتعزيز العلاقة بين الإنسان ووطنه وتعميق حس الانتماء إلى جانب أن فكرة إحياء ذاكرة المكان رؤية إبداعية لا يحدها الزمن.
جميل أن تكون في بلادنا العربية قصة متكاملة لإحياء ذاكرة المكان، فعلى أرضنا ولدت الحضارات وشيدت القلاع وعاش الشعراء وأقيمت المدن وانتعشت الفنون ورويت القصص وأقام أهل الفكر والحكمة.
والجدير بالذكر أن استراتيجيات ورؤية مملكة البحرين واضحة ورائدة من خلال جهود هيئة البحرين للثقافة والآثار للارتقاء بالمشهد الحضري لمدننا الغنية بالثقافة كما حدث مع مدينتي المحرق والمنامة فهي ليست مجرد مدن عشنا فيها ولكن هي مخزون ذاكرتنا وثقافتنا وأساس هويتنا الوطنية.
تظل المدن حاضرة فينا ونظل حاضرين فيها وللحفاظ على قصة المكان كذاكرة للأجيال لا بد من أن نتعامل معها كمشروع وطني تتبناه المدارس والبلديات والمنتديات الفكرية والثقافية للوصول في النهاية إلى تاريخ لصيق بحياتنا وحياة أبنائنا لا قصص انتهت منذ آلاف السنين.