واقع اليوم لطالما كان حلم البارحة لدى كل التلاميذ. عطلة مفتوحة إلى أجلٍ غير مسمى. لا استيقاظ من الصباح الباكر ولا نظام ولا صفوف ولا حتى دروس في بعض الحالات. فجميعنا يعلم أن التعليم الإلكتروني اقتصر على بعض المدارس وفي بعض الفئات المجتمعية. حيث تعتبر هذه الطريقة، رفاهية لا يستطيع الاستفادة منها فعلياً إلا التلاميذ ميسورو الحال. فشبكات الإنترنت الضعيفة، وانقطاع التيار الكهربائي، وعدم توفر الأجهزة الذكية، وتعدد الأولاد في الأسرة الواحدة، بالإضافة إلى عدم جاهزية المدارس، كلها مشاكل حالت دون نجاح التعليم عن بعد أو ما يعرف بالـ E-learning بنسبة كبيرة.
لا شك في أن الحصار الذي فرضه انتشار فيروس كورونا (كوفيد 19)، محكم وخانق. فقد فرض معه سلسلة تغييرات وانقلابات لم تكن في الحسبان، وأسفر النقاب عن عدم جاهزيتنا كعالمٍ عربي بشكل عام «باستثناء بعض الدول المتقدمة» للتكيف مع هذا الطارئ، ليس فقط على المستوى الصحي أو الخدماتي، بل على المستوى التعليمي أيضاً.
ليس هناك بنى تحتية قادرة على تأمين الخدمة التي بقيت في الصدارة خلال هذه الأزمة: الإنترنت والاتصالات، والتي تعتبر «خشبة الخلاص» اليوم لاستمرارية الكثير من القطاعات. وليس هناك منظومة تربوية قادرة على النهوض بالعام الدراسي الذي نسف بالكامل.
منذ ظهور مفهوم المدرسة في الحضارات القديمة، لم تكن محيطاً للتعلم واكتساب المهارات والمعارف، فإذا عدنا إلى عام 1369 حين أسس «هاري ب. سكول» منظومة للتربية، لم يكن الهدف منها التعلم بمفهومه اليوم، بل كانت المدرسة مكاناً لعقاب الأطفال الذين يسيئون التصرف. لست أترحم على «هاري ب. سكول»! لكن فلنفكر ملياً بسلوكات أولادنا، وأهمية دور المدرسة في تشكيلها ونحتها، بما تمليه المبادئ والأخلاق المثلى.
فلطالما كانت المدرسة أكثر من مجرد مؤسسة أكاديمية يقتصر نطاق تدخلها على تعليم مواد محددة، واختبارات وفروض. بل تتخطى ذلك لكونها منظومة فكرية سلوكية تنشئ الأولاد تنشئة نفسية مدنية ووطنية ليكونوا مواطنين أفضل في المجتمع. تنمي لديهم، فضلاً عن المهارات المعرفية، مهارات سلوكية شخصية مثل تنمية حس المسؤولية والنشاط والمثابرة والإصرار والتصميم والتخطيط، وتجعل منه إنساناً طموحاً خلاقاً، فهي توسع آفاق تفكيره.
لا يمكن لهذه المؤسسة، مهما اختلفت الآراء حولها، أن تلغى أو تستبدل بالتعليم عن بعد أو الـ E-learning، مع كامل التسليم بوجوب إدخاله في المناهج واعتماده، كتقنية مساهمة في العملية التعليمية، وليست بديلة عن المدرسة.
إذا نظرنا إلى واقعنا اليوم، حيث كورونا (كوفيد 19) كان بمثابة فترة تجريبية لحياة أولادنا بلا مدرسة، لا شك في أن الذي سوف نراه هو كفرناحوم! «كفرناحوم: كلمة فرنسية تعني الضوضاء وعدم الانتظام والازدحام بالنص».
إليكم مثالاً بسيطاً: الاستيقاظ باكراً، فضلاً عن فوائده الصحية حيث يحفز عمل الدماغ ويساعد على ضبط ساعة الجسم البيولوجية، هو قيمة سلوكية نفسية بحد ذاته، يكسب الأولاد منذ نعومة أظافرهم عادات أهم من القراءة والكتابة وهي: النشاط والالتزام والإصرار والمسؤولية.
فميكانيكية السلوك الصباحي، من النهوض من الفراش في ساعةٍ مبكرة وتوظيب الحقيبة والكتب والفراش وارتداء الملابس وتناول الفطور والخروج من المنزل، كلها ضمن جدول زمني محدد، تنمي احترام الوقت وعدم التخاذل وتعزز الإحساس بالمسؤولية. إن كورونا (كوفيد 19) غيمة سوداء اعتمت على طبيعة سير حياتنا ولا بد من زوالها، لكن لا تدعوها تأخذ معها، ما استغرقت البشرية عصراً لبنائه بعد الدراسات والخبرات والتجارب في بناء إنسان أفضل.