سطرت مملكة البحرين وطواقمها الطبية من صغيرها لكبيرها قصة نجاح متفردة في إدارة الأزمات الصحية إبان الأزمة الراهنة، فالتعامل اليومي مع المصابين والذين هم في الحجر الصحي احترازاً مقابل العمل لساعات طويلة بدون كلل أو ملل واحتمالات الإصابة بالعدوى، معادلة صعبة لا تخلو من قسوة.

هؤلاء جميعاً هم جنود البحرين الذين يعملون لحمايتنا من هذه الجائحة، فشكراً من أعماق القلب لـمجهودهم الصادق والمخلص، والشعور بالامتنان العميق لا ينسى مجهود الجهات الحكومية التي تعمل على تأمين الـمواد والـمعدات اللازمة للفحوص وللعناية بالـمرضى مع العلم أنه في ظل انتشار هذا الـمرض في جميع أقطار العالم فقد أصبح من الصعب الحصول على هذه الـمواد والـمعدات حيث إن كل دولة تصنعها تريد أن تحتفظ بها لمرضاها، فأي كلمة شكر تفي هذه الجود الوطنية حقها.

وفي التفاصيل الدقيقة، ربما يتساءل بعضٌ عن كيفية الفحص المختبري الذي يقوم به هؤلاء الجنود الذين يعملون كخلية النحل في هذه المحنة التي لم نشهد لها سابقة، ولهم نقول في محاولة لتبسيط آلية سير تلك الفحوص إن هناك العديد من الطرق للفحص الـمخبري لعينات الجراثيم من الـمرضى، فمثلاً في أغلب الأمراض التي تسببها البكتيريا تتم زراعة العينة مما يمكن الـمختبرات من تحديد الجرثومة الـمسببة للـمرض، وكذلك الحال في الأمراض التي تسببها الفطريات.. أما الطفيليات مثل الـملاريا فبالإمكان رؤيتها في العينات في الميكروسكوب نظراً لحجمها الكبير نوعاً ما.

أما الفيروسات فهي صغيرة للغاية وليس بالإمكان رؤيتها في الـميكروسكوب العادي في الـمختبر وليس بالإمكان زرعها بنفس سهولة البكتيريا أو الفطريات، لذا تستخدم طرق أخرى لتحديد نوع الفيروس الـمسبب للـمرض.

في الأزمان الـماضية كان تحديد ماهية الفيروس الـمسبب لـمرض يتم من خلال الكشف على الأجسام الـمضادة التي ينتجها جهاز الـمناعة في الـمريض ضد هذا الفيروس، وحيث إن إنتاج هذه الأجسام الـمضادة يستغرق بضعة أيام لذا لا يمكن الكشف إلا بعد أن يتقدم الـمرض ويتفاعل جهاز الـمناعة معه. ومن ناحية أخرى بالإمكان الكشف على الفيروس نفسه في عينة عبر استعمال أجسام مضادة مصنعة في حيوانات ضد هذا الفيروس، ولكن ذلك أيضاً يتطلب وجود الحد الأدنى من أعداد الفيروس في العينة حتى يتم الكشف عليه، ما يعنى أن الـمرض قد وصل حداً متقدماً نوعاً.

أما في السنوات الأخيرة، فقد تم اختراع فحص جديد يمكن من الكشف عن الفيروسات في العينات بدقة تفوق 10 أو 100 مرة الفحوص السابقة، هذا الفحص هو الذي يستخدم الآن للكشف عن فيروس الكورونا الـمستجد، وهو الفحص الجيني، فبدلاً من الفحص عن الأجسام الـمضادة أو عن الفيروس نفسه، ليتم الكشف عن الحمض النووي للفيروس، وقد كان لاستعمال هذا النوع من الفحوص درور كبير في تشخيص الإيدز ومراقبة مدى تقدم الـمرض أو انحساره في الـمرضى الـمصابين بالفيروس تباعاً للعلاج، وبإمكان هذا الفحص أيضاً تحديد عدد الفيروسات في عينة مما يمكن الطبيب من تحديد مرحلة تطور الـمرض أو الاستجابة للعلاج. ولكن ذلك ليس مستخدماً حالياً في فحص كورونا.

إذا كيف يتم الفحص؟ الفحص معقد نوعاً ما ويصعب شرحه بالتفصيل لغير الخبراء لذا سأحاول تبسيطه لتقريب فهمه، عادةً تؤخذ العينة لفحص فيروس كورونا من الأغشية الـمخاطية في الأنف أو الحلق حيث يتواجد الفيروس، وعندما تصل العينة إلى الـمختبر يتم استخلاص الحمض النووي للفيروس بعملية كيميائية. وفي حالة فيروس كـورونا فإن الحمـض النـووي هو من نـوع الريبونـي «RNA»، وهو نوع الحمض النووي الذي تتم ترجمته إلى بروتينات في خلايانا. أما النوع الآخر من الحمض النووي فهو الديوكسي ريبوني «DNA» وهو مادة الكروموزمات التي في الخلايا البشرية والذي يحفظ رموز ماهية الخلية وتحدد المكنون الجيني والذي يفرق كل إنسان عن الآخر.

إذا يتم استخلاص الحمض النووي الريبوني «RNA» للفيروس، ومن ثـم تتم عملية استنساخ عكسي إلى الحمض الديوكسي ريبوني «DNA»، «حيث إن الطبيعي في الخلية أن ينسخ الـ DNA إلى RNA - لذا هنا العملية عكسية»، ومن ثـم تتم عملية إكثار هذه السلسلة من الحمض الديوكسـي ريبـوني من خلال عمليـة كيميائية في جهاز يقوم باستنساخ عدد كبير من هذا الحمض النـووي، وتعرف هذه العملية بالـبلمرة الـمتسلسلة «Polymerase Chain Reaction».

ونتيجة ذلك يتم صناعة كمية كبيرة من الحمض النووي للفيروس والذي أصبح بالإمكان الكشف عليه بسهولة. وذلك يعني أنه حتى في وجود أعداد صغيرة من الفيروس في العينة فبالإمكان الآن الكشف عليه. وفي النهاية يقوم الجهاز بقياس كمي لحمض الفيروس وتظهر النتيجة، بموجب أم سالب.

وقد تطورت الأجهزة في السنوات الأخيرة بحيث أصبح بالإمكان الكشف عن 96 عينة في الجهاز في وقت واحد. وتستغرق هذه العملية من حوالي ثلاث ساعات إلى ثلاث ساعات ونصف. إذا الفحص حساس جداً وبالإمكان الكشف عن عدد كبير من العينات سوياً. وإذا تخيلنا عدد العينات التي تصل إلى مختبرات الصحة العامة حيث تجري هذه الفحوص «تم فحص ما يزيد عن 30 ألف عينة حتى زمن كتابة هذا الـمقال»، وحسب علمي فإن في مختبر الصحة العامة أربعة أجهزة تعمل في نفس الوقت، أي إنه بالإمكان ​نظرياً فحص ما يقارب 2600 عينة يومياً إذا عمل الـمختبر 24 ساعة في اليوم. وقد علمت أن المختبر يستلم في بعض الأيام ما يقارب 2000 عينة! ولا يسعنا إلا أن نتخيل الضغط الذي يتعرض له هؤلاء الفنيون الذين يعملون في الـمختبرات لحماية البحرين. فكل كلمات الشكر لهم على هذا الـمجهود الجبار.

* استاذ الأحياء الدقيقة والمناعة المشارك - نائب رئيس جامعة الخليج العربي