«البيضة أم الدجاجة.. أيهما كان أولاً؟!»، قد يبدو سؤالاً كهذا عبطياً وجدلياً دون طائلة، وقد يعتبره البعض ضرباً من إضاعة الوقت في الترهات، وربما يكون كذلك إن كان السؤال لا يحمل غايات أعمق أو تفسيرات أدق، ولكن متى ما تتبين دوافع طرح هذا النوع من الأسئلة، قد يكون من الجيد حقاً الدخول في مناقشات عميقة أو عصف ذهني مبتكر للبحث عن إجابة. على أية حال، فإن البيضة والدجاجة ليس محور حديثنا اليوم، غير أن يشبه حالة كهذه سؤالنا القادم حول القواسم المشتركة بين البشر رغم عدم تلاقيهم أحياناً ضمن دوائر انتماء معينة سوى المهنة.

في أحاديثنا الاجتماعية المتفرقة وأحكامنا المطلقة حول البشر، تتجلى بوضوح كثير من الصفات التي يحملها أصحاب مهنة معينة دوناً عن غيرهم، فقد عرف المحاسبون مثلاً بالدقة وربما من الغريب أيضاً أن يعرفون بالأناقة، وقد تميز المصممون والرسامون بالحس المرهف والشخصية الأكثر ميلاً إلى الهدوء والروحانيات، وربما من المثير أن يبدو بعض المختصين في مجال العلوم والرياضيات «وهو نوع عالٍ من الذكاء لا يملكه كثيرون» يفتقرون –في أغلب الأحيان– إلى الذكاء الاجتماعي.

تلك الصفات كلها لم تأتِ من دراسات حقيقية، وليست مبنية على دراسات علمية دقيقة، رغم أنه قد يكون هناك دراسات في علم النفس التفتت إلى هذا الجانب، ولكن ما استوقفني لطرح هذا الموضوع مجموعة من المقالات التي قرأتها في فترات متفرقة وتجمع على شخصية الكاتب أو شخصية محبي القراءة، بل أحياناً تحدد الجنس في إطار الدقة في التفسير وطرح المواصفات لأصحاب هذه المهنة، ومما قرأته في هذا السياق موسعاً الأحاديث التي تناولت الفتاة/المرأة الكاتبة.

قد لا يتسع المجال في هذا المقال لاستعراض تلك الصفات، وربما أتناولها في وقت لاحق بطريقة أو بأخرى، ولكني أدعوك عزيزي القارئ لمزيد من الاطلاع في هذا السياق من خلال قراءة كتابين «اخرج في موعد مع فتاة تحب الكتابة، اختيار وترجمة: محمد الضبع»، و«إذا وقعت في حب كاتبة، من تأليف جانيس والد وآخرون، وترجمة: أماليا داود».

فقط أردت الحديث هنا عن حقيقة الميول التي تجمع مئات بل آلاف البشر حول العالم وعبر أزمنة عدة على صفات معينة تميزها لتكون بمثابة بصمة مزاجية خاصة لأصحاب مهنة معينة دوناً عن غيرها، وربما من المثير أن الاشتراك في العائلة المهنية المحددة يسبغ على أفرادها صفات لا يتمتع بها أصحاب العائلة البيولوجية للفرد، ما يجعل من الأمر مثيراً للغرابة.

* اختلاج النبض:

محاولة فهم أيهما يسبق الآخر، ومعرفة إذا ما كانت المهنة تسبغ على صاحبها صفات ما كنتيجة للممارسة أو العكس، يجعل من صناعة المواهب والمختصين الجدد مسألة أكثر وضوحاً وقابلة للتحويل إلى آلية متكاملة لدعم النشء في مهن معينة دون غيرها، حسب الإمكانيات المتاحة. ولكن الأهم سبر أغوار البصمة المزاجية المهنية وأسرارها، وهو موضوع يستحق الاستفاضة.