في التاسعة من صباح يوم شتوي مشمس وحالما خرجت من محطة بنزين خيطان على طريق الملك فيصل، رأيته مرتدياً «بدلة» القوة الجوية الكويتية العسكرية الزرقاء، والتي مضى على لبسي مثيلاً لها أكثر من 20 عاماً ومازلت، لولا أنني ألبس الدشاشة والغترة في اليوم الثالث من إجازتي السنوية التي تمتد 45 يوماً. وأحتاج للذهاب لمكتبي لفلاش ميموري نسيته هناك.

توقفت بسيارتي وهي من نوع آيسوزو صغيرة حمراء قديمة أصبحت مخصصة لقضاء حوائج أهل البيت من توصيل أبنائي للمدارس وتبديل سلندر الغاز وشراء الخبز، لذا فتح الباب وسلم فسألته:

إلى»السلاح»؟

تفحص داخل السيارة المبعثرة فيها أوراق المدارس وقناني الماء و»كراتين» عصير الطلبة التي للتو تم إنزالها في مدارسهم ثم رد: وكيف عرفت؟

قلت: لبسك ثم إنني ذاهب هناك.

قال: لا أحد يسميه السلاح إلا من يعمل هناك.

وكان صادقاً فغير أبناء السلاح يسمونه المطار العسكري، وقيادة القوة الجوية.

لم يستأذن الشاب كبير الجثة في الكيلومتر الأخير من الرحلة القصيرة وأشعل سيجارة، ونفذها للخارج متصنعاً مراعاته لي، ثم أخرج زفرة هم كبيرة بشكل ملحوظ.

قلت معزياً: الدنيا ما تسوى؟ عسى ما شر؟

قال كمن لم تعجبه نبرة ملامتي وهو ينظر لساعته: متأخر عن الدوام، وينتظرني وكيل القوة «ملعون الوالدين».

قلت: لماذا!

قال: لن يترك الكلب العجوز كلمة فاحشة إلا وسوف يستخدمها، وإن نطقت بكلمة واحدة فسوف يحجزني اليوم وأستلم حراسة، بعد أن يوصي بذلك للضابط «الخايب» الثاني الذي لا يعلم عن عسكره شيئاً.

قلت: من حقه أن يكلفك بواجب، لكن ليس من حقه قول كلام بذيء فقط لأنك تأخرت.

نظر إلي بعد أن أشعل سيجارة جديدة وقال بنصف ابتسامة ساخرة: ماذا يقول لك وكيل القوة إذا حضرت للدوام متأخراً؟

قلت: يقول صباح الخير سيدي.

ضحك متصنعاً، ونظر إلي شزراً، وكنا قد اقتربنا من البوابة الأولى والتي لا توقف من يرتدي الزي العسكري أو من يعرف الحرس سيارته. وقد انطبق علينا الشرطان فقد سبق أن داومت عليها مرات عديدة، بالإضافة إلى أنه بجثته الكبيرة كان ظاهراً للعيان بزيه الأزرق.

لم يكن متأكداً مما رأى لكن أحد الحرس المعاقبين باستلام الحراسة كما قدرت، أدى تحية عجولة كمن يلوح لنا بيده. فنظر إلي وهو يقيس إن كنت أستحق هذه التحية لكنني «لم أترس عينه» فتمتم كما لو أنه يتعوذ من إبليس في خاطره، وأكمل تدخين سيجارته وهو يظهر كوعه إلى الخارج كما يفعل الشباب الرائق.

حين أقبلنا على البوابة الثانية، كان من المفروض أن أخفف من سرعتي وأدخل فتحة مواقف الجنود والعسكر على اليمين، فالضباط وحدهم هم من يدخلون سياراتهم لضيق المكان ولدواعي السلامة. لكنني استمررت واجتزت المطب الأول فصاح آمر الحرس الرقيب عويد ماطاً الكلمات بقدر ما يستطيع: سسسسسلام سسسلاح.

وسلام سلاح لا يستحقه إلا الضباط القادة، حيث يرفع طابور من العسكر بنادقهم أمامهم ثم ينزلونها للأسفل متزامنة مع رفع الساق لمنتصف الصدر والضرب بها على الأرض.

لم أجتز عسكر البوابة إلا وضيفي قد ألقى بسيجارته، وعدل بريهته، وأغلق «أزارير» كم قميصه، وهو ينظر إلي بوجه أحمر. دون كلمة فقد فقد لسانه عند البوابة بعد أن قصّه سلام سلاح.

قلت مهدئاً من روعة: أين وحدتك؟

قال فوراً وبقوة: الشؤون الفنية «سيدي».

وقفت أمام مبنى الشؤون الفنية الكبير وقلت له: استدع وكيل القوة.

ذهب مهرولاً وعاد مهرولاً والوكيل يمشى الهوينا خلفه والذي حين اقترب وأنزل رأسه لمستوى نافذة سيارتي الصغيرة عرفني، وحياني قائلاً: آمر سيدي.

قلت: هذا تأخيره محسوب علينا اليوم.

قال: أمرك سيدي.

وغادرت وهو يبتسم والعسكري في حالة استعداد أمامه.

* كاتب وأكاديمي كويتي