كنا ثلاثة جالسين في مقهى تواعدنا أن نلتقي فيه، جلست وسطهما وطلبت ألا تتحول هذه الجلسة لـ»حوار طرشان» بأن يمسك كلا منا هاتفه، ويكون جسدياً جالساً معنا وذهنياً في مكان آخر.

تأملتهما، وقد كنا ثلاثة نجتمع في مكان عمل واحد، ثم تغيرت مسارات كلا منا، أنا ذهبت لخوض مغامرة تحد مهنية جديدة، ولله الحمد مستمتع بها، وهما كذلك انتقلا لجهات أخرى. لكنني لاحظت بأن أحدهما سعيد جداً، والآخر عابس وكأن هموم الدنيا على رأسه.

وبفضولية الإعلامي وشغفه لتحريك المياه الراكدة، ألقيت بسؤالي لصديقي العابس: «عسى ما شر، شفيك مبوز؟!»، وللتوضيح وصف «مبوز» بلغتنا البحرينية الدارجة يعني الشخص الذي تكاد ترى شفتاه تتقدمان وجهه بسنتيمترات غير طبيعية نتيجة عبوسه أو زعله أو اغتمامه.

أجابني: «مبوز؟! الله لا يبلاكم بمسؤول مريض نفسياً، عندها ستعرفون سبب العبوس والهم»!

ضربني على وتر حساس، وأنا المنشغل في الفترة الأخير بسبر أغوار «فن الإدارة»، وتحديداً بكشف «زيف» شعاراتها حينما تطلق من أشخاص هم «أفسد» ما يكونون.

سألته ما القصة؟! فقال، اسأل صديقنا الثالث أولاً لماذا هو سعيد؟!

التفت إلى «سعيد»، وهي مصادفة بأنه اسمه ينطبق على حالته، وسألته ما السر في هذه الراحة البادية عليه، والسعادة التي تدفعه للضحك الدائم وإلقاء النكات؟!

أجاب سعيد: كما تعلمون كنت أعمل سابقاً في مكان ظننت بأنني سأتمكن فيه من تقديم الكثير، سأسطع فيه كنجم يستفاد من خبرته ودراسته المتقدمة، كانت لدي أفكار طموحة، وأدبيات ومبادئ أتمسك بها، وأؤمن دائماً بأن محيطنا يحتويها ويتحضنها ويعمل بها، لكن للأسف بيئة العمل قتلتني، بل خنقتني، وابتليت بمسؤول فيه أمراض السلطة والديكتاتورية والغدر والكذب وكيد المؤامرات للمجتهدين، بل أكره شيء بالنسبة لديه حين يرى شخصاً مؤهلاً قادراً يبدع، فيعمل بالتالي على قتل إبداعه، وينصب له الأفخاخ والكمائن، ويسلط جوقته وحاشيته من منافقين وأفاقين ليعكروا عليه صفو عمله.

سألته: طيب وماذا حصل بعدها، وجعل حالك يتغير؟!

رد علي: ببساطة طبقت قاعدة تعلمتها من كتاب «فن الحرب» للجنرال الصيني الفيلسوف «سون تزو»، والذي ألفه في القرن السادس الميلادي. هذه القاعدة متمثلة بوضعية تسمى «المستنقع»، وفيها تكون بالفعل في مستنقع تصعب فيه حركتك، وتكون مكشوفاً للعدو، يمكنه تصويبك بسهولة، والاستراتيجية في هذه الحالة بأن تحاول «الخروج بأسرع وقت، وبأقل ضرر ممكن»، وهذا ما فعلته خرجت من موقع عملي، والتحقت بوظيفة أخرى، والحمدلله، كتب الله لي بأن أحظى بمسؤول نظيف اليد والقلب، إداري محنك، يؤمن بالإدارة فعلاً لا فقط قولاً وشعارات، ولأنه واثق من نفسه وقدراته فلا يستشعر التهديد من قبل أي موظف مؤهل وكفوء وطموح، بل يساعده على التطور والنهوض، يضع الناس في مواقعهم الصحيحة، لا مواقع أخرى بتعمد يعرف تماماً أنها بعيدة عن تخصصهم، وبفضل هذا الرجل والصلاحيات التي أعطاني إياها ووضعني محل الثقة، أنا أعمل وأبدع وأجتهد، وأحب القيام صباحاً للتوجه لعملي.

التفت لصديقنا الثالث العابس وقلت: وما الوضع عندك؟! أجاب بلا تردد: عكس كل ما ذكره صديقنا السعيد سعيد، لدي مسؤول مريض نفسياً، يقوم بكل فعل دنيء، لا تهمه المصلحة العامة التي يدعيها كذباً، بل مصلحته الشخصية، ومستعد أن يدمر ويتآمر بخبث ضد أي شخص يمثل له تهديداً، أو يقف أمامه بمبادئ وأخلاقيات، واضح أن علي تطبيق استراتيجية «المستنقع».

ثم التفتا علي وسألاني، وماذا عنك؟!

أجبت وأنا ابتسم: لقد تعرفت على الجنرال «سون تزو» وكتابه منذ فترة طويلة، وطبقت نظريات عديدة فيه، أولها كانت «المستنقع»، واليوم أنا أطبق النظريات الأخرى على الموظفين الذين أتولى مسؤوليتهم، نظريات تركز على الإدارة الصحيحة الصالحة، ودعم الكوادر المبدعة، وفتح الأبواب للتطور، والأهم أن يتم كل ذلك في أجواء خالية من الفساد الإداري والمالي، لذلك أشكر الله بأنني سعيد، ولدي مسؤول لا يمكنني وصف مثاليته بأية كلمات، وبالتالي موظفيني المجتهدين الطامحين أشعر بالسعادة لديهم والاندفاع والرغبة في العمل.

هي قاعدة باتت مترسخة لدي وأؤمن بها فيما يتعلق بإصلاح المنظومات المهنية إداريا، إذ طالما كان «رأس الهرم» قيادياً مثالياً لديه الأخلاقيات والمبادئ ويطبق معايير العدالة والنزاهة ويحفز موظفيه ويحميهم ويطورهم، طالما ستجد القطاعات تنهض وتعم موظفيها «سعادة حقيقية» لا سعادة زائفة يدعونها خوفاً وتوجساً.

أمنياتي لكم بألا يبلوك الله بـ»مسؤول نرجسي مريض».