في ظل وضع اقتصادي متأزم منذ سنوات وعمل سياسي مشلول، وصل لبنان إلى الانفجار، فالدولة مكبلة وعاجزة عن الحراك، والميليشيات «الشيطانية» تسيطر على أهم المفاصل وتتعمد العرقلة لخدمة أجندتها التخريبية. يضاف إلى ذلك هشاشة الجيش وقوى الأمن واستشراء الفساد في أجهزة الدولة وتضخم المديونية العامة التي جعلت لبنان في المركز الثالث عالمياً في نسبة المديونية مقارنة بالناتج القومي. ويعاني لبنان كذلك من تدفق مليون لاجىء سوري «رسمي» وثلاث مئة ألف «غير رسمي» منذ الحرب السورية مما فاقم من أوجاع الاقتصاد وشكل منافسة على فرص العمل.
ولم ينمُ اقتصاد لبنان من الفترة ما بين 2011 و2017 سوى 1 إلى 2 % بعد أن وصل معدل النمو قبل ذلك إلى 8 %. ولم تنجح محاولات إعادة الثقة بالاقتصاد اللبناني من خلال مؤتمرات المتبرعين والمستثمرين وآخرهم مؤتمر «سيدار» في فرنسا عام 2018 من جذب الاستثمارات والأموال للبلد الصغير الذي تطحنه النزاعات منذ تأسيسه.
والحكومة اللبنانية المكبلة، تخصص أغلب ميزانيتها لتسديد الديون وصرف رواتب موظفي الدولة ودعم الطاقة الكهربائية ولا يتبقى لها شيء يذكر للاستثمار في البنية التحتية أو في دعم المشاريع التنموية. فالجمود المرهق هو عنوان هذه المرحلة وهو الذي أخرج الناس للشوارع.
كتب على هذا البلد أن يعيش في توترات متتالية فهذا على ما يبدو قدره. وعلى الرغم من ذلك، فلبنان الجميل بأجوائه وبطبيعته الخلابة وبشعبه الذكي والأنيق، دائماً ما يضفي لمسة جمال وإبداع على أحداثه المعقدة. فالمظاهرات التي لم تتوقف منذ أيام، والتي تبدو أحياناً عنيفة، تجملها وتخفف من حدتها النكات والأهازيج والدبكات الجماعية والهتافات الساخرة والتي تفنن في تأليفها اللبنانيون.
ولأن المظاهرات في لبنان، فليس من المستبعد أن يتم التظاهر صباحاً، ومن ثم يذهب جزءاً كبيراً من الجموع إلى السهر في الليل! وليس من المستبعد أن جزءاً لا بأس به من الجمهور في الشارع نزل - بكامل أناقته - كي يتفرج ويصور «سلفي»! شعب عجيب وعلى الرغم من مسلسل الأزمات المتعبة يبقى مقبلاً على الحياة بشكل كبير.
ومازلت أذكر تقريراً تلفزيونياً مطولاً عن حرب لبنان الأهلية ظهرت فيه نساء كبيرات في السن - أعتقد من بيروت الشرقية - يجلسن على الشرفات ويحتسين القهوة ويتفرجن على القتال في الشوارع! أين تجدون هكذا ناساً؟
الشخصية اللبنانية الفريدة جريئة ومتحررة وتجيد الغضب و الفرح في آن سواء.
عموماً، وعلى الرغم من حال اللبنانيين الحالي، فالبلد لديه قدرة خارقة على إمتصاص الأزمات. وأكاد أجزم أنه مع مرور الوقت ستنطفئ هذه الأزمة «والتي للعلم، أطلق شرارتها فكرة فرض ضريبة على محادثات «الواتساب»»، ويعود الناس إلى حياتهم الطبيعية. فاللبنانيون بتعليمهم المميز وبمثابرتهم وفطنتهم وإقبالهم على الحياة قادرون على تحدي ظروفهم القاهرة. وإذا لم ينجحوا في ذلك، فليس لديهم مشكلة أبداً في الهجرة والبدء من الصفر، تماماً كما فعل الملايين منهم على مدى السنين!