ظهرت الصالونات الثقافية بشكل واضح منذ العصور القديمة حتى اليوم، وكلمة الصالون ترجع في أصلها إلى اللاتينية «salon» وهو المكان الذي يستضاف فيه مجموعة من الشخصيات البارزة والمهمة ليتبادلوا فيها مع العامة جوانب كثيرة كالفكر والمعارف والفلسفة والأدب والآراء.
نشأت حركة الصالونات الثقافية مع حركة النهضة في إيطاليا في القرن السادس عشر دون أن يكون اسمها صالونات بل كانت هذه الأماكن ترعى وتتبنى الحركة الأدبية والفنية على أيدي متنفذين وميسورين من الطبقة الأرستقراطية، مع العلم أن النساء آنذاك كن أكثر اهتماماً في قصورهن من الرجال في الحركة الأدبية والفنية، وإذا بحثنا عن معنى «salone» بالإيطالية فهو يعني «غرفة الاستقبال» ومن بعد تطور حركة الصالونات في إيطاليا بدأت بالانتشار في فرنسا وكان هذا في القرن السابع عشر باسم «ruelle» وهو يعني الممر الموجود بين سرير تستلقي عليه سيدة أرستقراطية وجدار يجلس على كراسٍ بجانبه مجموعة من المفكرين والاُدباء ليتناقشوا ويتبادلوا الآراء والأفكار، ويعتبر أقدم صالون عرفته الوثائق التاريخية في فرنسا هو «فندق رومبيو»، القريب من قصر اللوفر في باريس.
أما بالنسبة لعالمنا العربي فقد ظهرت هذه الصالونات على شكل مجالس أدبية، حيث كان الشعراء يعتكفون ويجتهدون في مدح الملوك والأمراء مثلما قام به سيف الدين الحمداني في مجلسه الذي كان يضم أبرز الشعراء كالمتنبي وأبي فراس الحمداني، إلى جانب مجالس العصر الأموي كمجلس المأمون ومجالس العصر العباسي، ثم يأتي مجلس الشاعرة الولادة بنت المستكفي في الأندلس حيث تميزت بإنشاء صالوناً أدبياً يضم نخبة من الشعراء كابن زيدون، ولا يخفى علينا «عكاظ» الذي تناقش فيه جماليات القصائد والأشعار.
تعتبر القاهرة أبرز العواصم العربية التي اجتهد فيها المبدعون لإنشاء الصالونات الثقافية البارزة والتي اعتبرت رافداً ثقافياً مهماً على مدى العصور وكان على رأسها صالون الأديبة «مي زيادة» الذي كان يعقد كل ثلاثاء على مدى عشرين عاماً والذي بدأ في مسكنها في شارع عدلي، ثم انتقل إلى الطابق الذي قدمته لها جريدة «الأهرام»، وكان يضم نخبة من المبدعين كأحمد شوقي وعباس العقاد، ومصطفى صادق الرافعي، وكانت له آثار واضحة على الحركة الثقافية والأدبية وساهم في إنتاج حركة ثقافية وأسماء جديدة لم تكن معروفة من قبل، إلى جانب صالون عباس محمود العقاد الذي كتب فيه أنيس منصور كتاب «في صالون العقاد كانت لنا أيام».
وبما أن الصالون الثقافي هو ملتقى للأدباء والفنانين وأهل المعرفة والثقافة إلا أنه من اللافت أن تكون المرأة ذات الدور الأبرز في هذا المجال، فهل هذا بسبب أنها في الكثير من المراحل التاريخية حُرمت من المشاركة في الحراك الثقافي فآثرت أن تستدعي رجال الفكر والأدب والفن إلى صالونها كي تدلي بدلوها في هذا الشأن أو تلك القضايا، أم لأن الصالونات الثقافية تحتاج إلى عنصر نسائي يهتم بتفاصيله الجمالية والثقافية؟
هكذا كانت الصالونات الثقافية في الماضي، سواء كانت منسوبة لرجال أو نساء تناقش قضايا مهمة بوجود نخب فكرية أدبية فكرية ثقافية لامعة، ولكن أين نحن من هذه الصالونات؟ وهل ما يحدث اليوم في الصالونات الثقافية الأدبية يرتقي بالمستوى الثقافي المطلوب؟ أم هي وجاهة من أجل الحصول على لقب مثقف أو أديب أو صاحب صالون ثقافي؟ أم هي تجمعات قائمة على أسس التشابه في الطيف الفكري والسياسي والاجتماعي؟!
إن الصالونات الثقافية لها دور كبير في نشر الفكر التنويري وتعتبر مصدر إشعاع فكري وثقافي وأدبي من أجل إبداء الرأي والنقد بالطريقة البناءة، فأحياناً الجهود الأدبية بدخول الجماعة تستطيع أن تخلق مشاريع خلاقة يانعة وأن الاهتمام بالأفكار وإن كانت بسيطة تنبت سنابل خضراء باحتوائها وصقلها، فعلينا أن لا نستهين بأي فكر إنساني وإن كان صغيراً مادام يهدف للسمو بالثقافة والآداب والفنون.
جميل قيام هذه التجمعات الثقافية من أجل مناقشة أمور المجتمع بنوع معين من الرقي الفكري، ولكن العبرة ليس بكل من أنشأ مقراً للصالون الثقافي، ولكن من باشره وأثراه بالفكر والثقافة والأدب كي يأخذ دوره في الاستمرارية، فهو منبر فكري تعليمي لاكتشاف وصقل المواهب وتبادل الفكر والخبرات.
إن فكرة إنشاء الصالونات يجب أن يكون قائمة على المصلحة العامة قبل الخاصة، مع ضرورة وجود حركة نقدية بناءة في تلك التجمعات.. كما يجب الانتباه بأن يكون دافع إنشاء تلك الصالونات ليس الوجاهة الاجتماعية ومحاكاة التسابق الحادث حالياً كموضة جديدة من موضات البروز الإعلامي، فيكون هذا الصالون مجرد منتدى هلامي لا يطرح رأياً ولا يطور وضعاً، بل المطلوب وجود فائدة وإثراء من قيام هذا الصرح التجمعي الفكري.