إذا كانت الوسطية مشتقة لغوياً من التوسط فإنها تعني في الخطاب الاعتدال والاتزان وعدم الوقوع في الغلو والتطرف وتحميل النص أكثر من طاقته، ووسائل الإعلام تجد نفسها ملزمة بتحقيق هذا الاعتدال في قراءة وفهم النصوص حيث إنها وسائل عامة تخاطب جمهوراً عاماً، ولذلك تظل المشتركات من الأفكار والمواقف والآراء هي الأكثر قابلية وملاءمة لهذه الوسائل وإلا سقطت في فخ التنافر والتقاطع والاستقطاب السلبي الذي يهدد وحدة الأمة ونسيجها الاجتماعي. ومما يذكر إيجاباً لوسائل الإعلام الرسمية العربية أنها ظلت بمنأي عن هذا الاستقطاب، وكذلك فعلت الصحف القومية الرسمية قدر جهدها فاستطاعت أن تجنب المجتمع كثيراً من الفتن، ولكن هذا تم اختراقه في العقدين الماضيين حين استطاع الإعلام الخاص، ومعه انتشار ما يسمي بوسائل التواصل الاجتماعي، طرح قضايا ورؤى ظن أنها -جديدة- فاستيقظت الثارات القديمة، والمظلوميات الوهمية، والأحلام الطوباوية، ثم نفخ فيها كل ربيب مصلحة من الداخل والخارج فادلهمت خطراً داهماً على الجميع!

كان هذا الجموح عنوانه الخروج عن منهج الوسطية الذي رسمه الخطاب الديني منذ 1400 عام والذي بيانه تجلي في سورة البقرة «وجعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً»، وتمثل هذا الجموح أيضاً في لي أعناق الآيات والأحاديث وقراءتها قراءة ملتوية تتوافق مع الاتجاهات العنيفة، أو المآرب السياسية، أو الأطماع الشخصية، آيات كثيرة وأحاديث لا تحصى تم تجييرها لرؤى جاهلة ومواقف رعناء متكبرة ولشخصيات لبست مسوح العلم والفقه، وهي من كليهما خواء، فمرقوا بعلمهم الزائف من الدين الحق، واختطوا منهج الخوارج غلواً وتطرفاً، وانتظموا في تنظيمات مسلحة كفرت المجتمع واستباحت حرماته وتحولت المجتمعات الإسلامية عندهم بين عشية وضحاها، إلى دار حرب كبيرة يمرح فيها هؤلاء، ولكن الله غالب على أمره أن كشف بسرعة نزقهم، ورد جنوحهم، وجعل بأسهم في نحورهم، حيث انبرى لهم في كل محفل من يدافع عن روح الإسلام السمحة ومنهاجه الوسطي وقيمه الرائقة الأصيلة، ولعل آخر هذه الجهود تلك الندوة العلمية التي عقدتها إدارة الأوقاف السنية بمملكة البحرين حول «الوسطية في الخطاب الديني».

كان من أبرز أمثلة هذا التأويل الفاحش للنصوص ما ورد في الحديث النبوي الشريف الذي رواه أحمد «بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله تعالى وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم»، فقد أخذ هؤلاء الغلاة من نص الحديث مطية لما يميلون إليه من عنف وقالوا قولة الخبثاء من بعض المستشرقين بأن الإسلام انتشر بالسيف وراحوا يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء ويقطعون الرؤوس بحجة إكراه الناس على الحق تبعاً لهذا الحديث الذي هو مما افتروا به براء!! فقوله «وجعل رزقي تحت رمحي»، إشارة بعدم الخوف عن رد الاعتداء وقتال من اعتدى عليهم كما أن السيف هنا كما -اتفق الفقهاء- محكوم بالآية «وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين».

إن وسائل الإعلام العربية عليها أن تظل منضبطة بمعاييرها في الحفاظ على خطابها المتعلق بالدين، كما يجب أن تواصل جهدها في ترسيم استراتيجية منسقة لمكافحة الإرهاب ضمن إطار تعاوني تكاملي على مستوى الدول العربية والإسلامية كما التركيز على دحض هذه الأفكار المتطرفة وعدم إعطائها أدنى فرصة لتتسرب إلى عقليات الجماهير، بل عليها أن تتابع مراقبة الجبهة الجديدة لهذه الأفكار عبر منصات الوسائط الجديدة وتحذير الناس من مخاطرها، واستمرار التركيز على كل ما يرسخ قيم المحبة والعدل والخير بين الناس، ورفض كل من يدعو إلى الكراهية والعنف وكل من تجاوز منهج التوسط والاعتدال الذي عليهما يقوم الخطاب الإعلامي الرشيد.