جعلت الجمعية العامة للأمم المتحدة الفترة من عام «1988-1997»، عقداً للتنمية الثقافية تحت رعاية الأمم المتحدة و»اليونسكو» حيث تركزت خطة العمل على مراعاة البعد الثقافي للتنمية، وتأكيد الذاتيات الثقافية، وزيادة المشاركة في الحياة الثقافية والنهوض بالتعاون الثقافي الدولي، واتسع مفهوم تعريف التنمية ليشمل المشاركة الاجتماعية، ولكن العولمة بمخاطرها الجديدة عملت على تسليع الثقافة والسماح لوسائل الاتصال الدولية ذات الاحتكار التقليدي للمعلومات على ترسيخ السيطرة الثقافية «الإمبريالية الثقافية»، ثم العمل على تقزيم الذات الوطنية وتفجير أزمة الهوية، حتى ذهب مارتن وولف إلى وصف العولمة بأنها عملية غسيل حقيقية للأدمغة.
وبالرغم مما تقدمه الثورة الجديدة في الاتصالات من منافع كثيرة إلا أن الاستهلاكية الثقافية أو الثقافة الشعبية السطحية التي برزت معها في ظل بروز الوسائط الجديدة للاتصال بالإضافة إلى الحروب الثقافية بين كثير من دول العالم أدى إلى جعل هذه الأدوات إحدى وسائل الصراع العالمي أكثر منه وسيلة للتقارب والتفاهم بين الدول. وقد أورد سامي الشريف «2007» أهداف وشروط الإعلام الثقافي، كما حددتها المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم كي تجابه مخاطر هذا السيل المعلوماتي الموجه في ظل توجيهات دولية متناقضة، ورغم أن هذه الأهداف والشروط نظرياً تسعى إلى تعميق الذاكرة الجماعية العربية وتوعية الرأي العام ومساعدة المثقف العربي، إلا أن ما طرحته من توصيات مازالت بعيدة المنال عن سياسة إعلامية ثقافية تحتوي على استراتيجية تحمي الهوية الوطنية من محاولات الطمس والتشويه وإن كان التخطيط القائم على تضامن المؤسسات الثقافية الإعلامية معاً يمكنه مواجهة الكثير من هذه التحديات.
وقد أدى بروز الإعلام في عصر العولمة إلى ازدياد الضغوط على الإعلام العربي وكذلك قدرة المحطات الأجنبية الموجهة وغيرها من منصات الدعاية العالمية في تخطي حدود السيادة الوطنية وتسويق مشروعاتها السياسية والاقتصادية والثقافية بفرض الهيمنة، حيث تسبب النظام الدولي الجديد في عصر العولمة في حدوث ظاهرة «التخطي المعلوماتي»، للحدود الوطنية واتساع نطاق الخدمة المرئية وظهور ما يسمي بالدبلوماسية الفضائية والإعلام الإلكتروني بديلاً عن الدبلوماسية التقليدية، وكذلك تصاعد ثقافة الصورة وتصاعد دور التلفزيون وشبكات التواصل الاجتماعي، وقد أدى كل ذلك إلى إضعاف الإعلام الوطني وزيادة تبعيته والتأثر في العلاقات الدولية والواقع الاقتصادي والسلوك الاستهلاكي للجمهور، هذا إلى جانب تحويل المجتمعات الداخلية إلى مجتمعات عالمية مما أثر في صانعي القرار للسياسات الداخلية، وفي سياق هذا المدخل يصبح من الضروري النظر إلى هذه القنوات الأجنبية من منظور الدعاية الموجهة وليس منظور الإعلام الثقافي.
إن استمرار النظر إلى هذه القنوات الفضائية الأجنبية باعتبارها إعلاماً سيشارك في تنمية الإنسان العربي يعد إشكالية قائمة على الخلط وعدم القدرة على سبر أغوار حقيقة الفلسفة التي أنشأت من أجلها هذه القنوات، وقد وصل هذا الخلط أوجه في قيام بعض الدول العربية بفتح المجال الإعلامي لهذه القنوات في كافة المجالات الإعلامية والثقافية واعتبارها رافداً رئيساً من روافد التنمية الإعلامية، وهو ما يعد تناقضاً لا يتفق مع مقولات الاستقلال الإعلامي والثقافي، أو يتماهى مع حقيقة إنشاء هذه القنوات على أسس المصلحة القومية التي تبث منها أو أجلها، وأرى أن نبذ هذا التناقض هو الخطوة الأولى نحو مجابهة هذه المشكلة، ووضع الحلول الإعلامية الناجحة التي تستطيع أن تحتفظ بالجمهور في إطار من الولاء لمؤسساته الإعلامية الوطنية، بعيداً عن كل قنوات الاستقطاب والاستلاب الإعلامي والثقافي، وما أكثرها في منطقتنا العربية حالياً.