إن التعليم هو الركن الذي ينطلق منه الإصلاح وتنطلق منه حضارات الأمم وهو الأداة الأساسية لنهضة الشعوب، والمجتمعات الواعية أصبحت اليوم ذات إلمام كبير بأهمية التعليم ومستعدة لبذل جهود كبيرة للوقوف مع الحركة الإصلاحية التنموية الشاملة في المجال التعليمي التربوي.
إن أفضل استثمار للإنسان يكون في المراحل الأولى من حياته خصوصاً في تلك المجتمعات التي يشكّل الشباب فيها الشريحة الأكبر، ومن خلال العديد من الدراسات التي تثبت فائدة استثمار التعليم هناك دراسة «ماك كارتني» التي تقول إن كل دولار يستثمر في مراحل التعليم الأولى يرجع بالفائدة ويكون عائداً للاستثمار المستقبلي بما يعادل سبعة عشر ضعفاً أي بقيمة 17 دولاراً مقابل كل دولار. والجدير بالذكر أن المحرّك الأساسي لهذه المنظومة هو المعلم الذي يأتي في المرتبة الأولى في إنجاحها وهو العنصر الفعّال، متى ما كان متمكناً أصبح مؤثراً فعّالاً على الطالب وعلى تحصيله العلمي. وفي دراسات أخرى أيضاً أثبتت أن المعلم المتمكن الفعال يؤثر على تحصيل الطالب بمقدار 3 إلى 4 أضعاف المعلم الضعيف غير الفعال، وأن التأثير التراكمي التحصيلي على مدى ثلاثة أعوام يعادل 37 % عند المعلم غير الفعال و90 % عند المعلم الفعال المتمكن، أي إن تحصيل عام واحد من معلم فعال أفضل من تحصيل ثلاث إلى أربع سنوات عند معلم غير فعال.
هنا يأتي التحدي الكبير الذي يواجه منظومة التعليم وهو كيف نرفع مستوى الملايين من المعلمين، وهل هناك طرق نحرر فيها التعليم ليصبح الطالب لديه كل مفاتيح المعرفة في أي مكان كان أو زمان ؟! وهل ستكون المعرفة متاحة بأفضل الطرق والتقنيات وبطريقة شرح تقنية فعالة ليكون الطالب محمياً بعيداً عن أن يكون رهينة وضحية معلم غير فعال؟!
تزامناً مع هذا الموضوع الواسع خطر على بالي قصة لشاب أمريكي من أصل هندي اسمه سلمان خان، شاب متفوق حصل على درجات علمية عديدة عالية من جامعات مرموقة كـ «هارفرد» و«إم آي تي» في بوسطن في تخصص إدارة الأعمال والهندسة وعلوم الحاسب الآلي، كانت بداية قصته في أواخر عام 2004 عندما درّس الرياضيات لأحد أقاربه عبر الإنترنت، وعندما أراد أن يساعد شريحة أكبر من الأصدقاء والأقارب قرر توزيع الدروس عبر قناة في اليوتيوب وبعدها بعامين أنشأ خان حساباً على اليوتيوب من خلاله زادت شعبيته وزاد متابعوه من الطلاب، فقرر بعدها ترك عمله في صناديق الاستثمار كمحلل مالي والتفرغ الكامل لتطوير قناة «أكاديمية خان» على اليوتيوب التي تعد أشهر نموذج عالمي يوفر التعليم ذي الجودة العالية في أي وقت وفي أي مكان، وكانت حصيلته 3600 محاضرة على نظام الحلقات مدة كل حلقة عشر دقائق عبر فيديوهات مخزّنة على اليوتيوب تدرّس من خلالها مواد كثيرة كالأحياء والرياضيات والفيزياء والكيمياء والتاريخ والفلك والاقتصاد إضافة إلى 123 تدريباً من التدريبات الآلية التي تقيم بشكل مستمر، وبذلك أحدث خان تحولاً كبيراً ابتعد فيه عن أسلوب الشرح التقليدي التلقيني واخترع تعليماً تفاعلياً تكنولوجياً نشطاً يعد من الطرق الأكثر فعالية لأنه من خلالها يستطيع الطالب تشغيل الفيديو وإعادته أكثر من مرة فيزيد من فعالية الدماغ بنسبة 50% حيث يتم استخدام طرق مبتكرة فتزيد نشاط خلايا المخ. والجميل أن أمنيات الشاب «خان» هي أن تكون أكاديميته أول مدرسة افتراضية مجانية يتاح لأي إنسان في العالم أن يتعلم ما يريد في أي وقت بالمجان.
من الصعب أن نرتقي بملايين المعلمين في فترة زمنية محدودة ونصل بهم إلى المستوى الذي نأمله بالإضافة إلى أننا لا ننكر أن هناك مجموعة من المعلمين النادرين المتميزين المبدعين لديهم القدرات الفائقة في التدريس وجذب الطلبة بأساليب شيقة، وبما أنهم ندرة فإذا تم تفعيل هذه الندرة المبدعة في تدريس هذه المواد باستخدام الطرق التقنية والفيديوهات والوسائل التوضيحية المتقدمة وتم تغطية كافة المواد من المرحلة الابتدائية حتى الثانوية في جهاز كجهاز الآي باد، فهذا يعود بالاستثمار الوفير ليس للطالب من حيث الاستفادة وزيادة تفاعله وتحصيله الدراسي، وإنما هناك شريحة أخرى مستفيدة كالأساتذة بتوفير نماذج لشرح الدروس من قبل معلمين مبدعين وبعيداً عن أي دورات تقليدية، فبذلك يتنافس باقي المعلمين مع الشرح النموذجي الذي يتوفر بين يدي الطالب في الجهاز وبالتالي لا يقبل هذا الطالب بأقل ما يرى إلى جانب استفادة ولي الأمر بحيث يستطيع أن يساهم ويشارك في الشرح والمراجعة دون اللجوء للدروس الخصوصية فالمنهج متاح للجميع بالصوت والصورة.
إن المعلم بهذه الطريقة سيصبح أكثر فعالية، حيث إن الطالب سيأتي للمدرسة وقبل حضوره الحصة الدراسية مستمعاً للدرس فيصبح دور المعلم ليس إعطاء وتلقين المعلومة، بل له أدوار أخرى لا تقل أهمية منها المناقشة والحوار والتطبيقات العملية والتشجيع على المشاركة ومحاولة اختراع طرق تحرك وتفعل المفاهيم التي كونتها المعلومة في عقل الطالب من أفكار جديدة مبتكرة ملموسة تكمل وتشكل دائرة التعلم في دماغ المتعلم من استقبال المعلومة إلى التفكر فيها وتحليلها.
نعم نحن نحتاج إلى طرق جديدة غير تقليدية في التعليم بعيدة عن النمطية كأحادية المنهج التي تنتج أشخاصاً متشابهين لأنها غير مواكبة لهذا الجيل الذي يتطلع دائماً للاختلاف والإبداع والتعددية.
نحن بحاجة في عالمنا العربي إلى ثورة لا تنسف ما أنجزناه والبدء من الصفر، وإنما إلى ثورة تبدأ من حيث ما انتهى إليه السابقون، فهناك مشاريع تعليمية رائدة ولكن تحتاج إلى التطوير الأوسع، وأن كل عام يمر على الطالب بين يدي معلم ضعيف غير فعال ووسائل تقليدية وطرق تدريس غير فعاله هو إهدار لعقل جيل بأكمله، فمتى سنلمس بصيص النهضة التعليمية؟ وهل سنرى في العالم العربي قفزات نكون فيها قدوة لباقي الشعوب، فنحن شعوب تملك عقولاً وثروات طبيعية واستقراراً أمنياً، فهل ستولد من مجتمعاتنا نسخ عربية كأكاديمية خان؟!