جاءت الكلمات السامية لحضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة عاهل البلاد المفدى، ومباركة جلالته مما تحقق من إنجاز عظيم في اليوم الوطني، وشكر جلالته لأهل البحرين على الإقبال الكبير في المشاركة بالانتخابات النيابية والبلدية والذي ساهم في تحقيق نسبة عالية بكل المقاييس، وحرصهم لأداء مسؤولياتهم الوطنية، لتؤكد على معنيين مهمين كانا وما زالا يمثلان نهج الحكم الرشيد بالبلاد.

المعنى الأول: أنه لا يمكن أن يوجد في البحرين خاسر من جراء خامس دورة انتخابات تشهدها البلاد، ولا يمكن القبول سوى بقناعة واحدة مطلقة، وهي أن الكل كانوا من الرابحين سواء من المرشحين أو الناخبين، وقد نال هؤلاء جميعهم مبتغاهم، حيث حقق الكافة ما يصبون إليه من مكاسب من وراء هذا المحفل العظيم الذي لم تشهده فحسب أروقة وطرقات ومؤسسات المملكة في كل ربوعها، وإنما بيوتها ومجالسها أيضا، وقد تلمسه البعيد قبل القريب ممن حضر وشاهد وتابع هذا العرس الكبير.

المعنى الآخر: أن البحرين برجالاتها الوفية وقياداتها الأمينة وبتوجيهات سديدة من جلالة الملك المفدى، ستظل الحصن الحصين لهذه الأرض الطيبة، وستبقى حائط الصد الأول في وجه كل من تسول له نفسه المساس بأمن شعبها، أو النيل من سيادتها واستقرارها، وأنها ستظل على العهد والوعد دائماً بتقديم كل خير لشعبها المخلص الذي لبى نداء الواجب، وأنها لن تتخلى عن مشروعها الإصلاحي الشامل الذي انطلق قبل نحو عقد ونيف، وستدعمه بكل ما أوتيت من قوة ليبقى ذخراً لأهل هذا البلد الكرام.

وتكشف ردود الفعل التي سادت خلال هذا العرس الديمقراطي، وما زالت تتوالى إلى الآن، عن العديد من المشاهد التي ستبقى حية في ذاكرة البحرينيين كافة، غير أن هناك ثلاثة مشاهد تستحق الوقوف عندها لقراءة ما حدث في انتخابات الـ24 من نوفمبر الجاري، خاصة بعد إعلان النتائج النهائية، والفائزين بثقة الشعب للفترة من 2018 وحتى 2022:

المشهد الأول يتعلق بنسب الإقبال على التصويت، ومستوى المشاركة الشعبية التي لاحظها كل من تواجد في المملكة، وارتبطت بالتالي بحجم المنافسة المحمومة إلى مقاعد المجالس التمثيلية، والتي سيعاد الانتخاب عليها مجددا في جولة ثانية ستكون أكثر حسماً يوم السبت 1 ديسمبر 2018، وذلك بحثاً عن 31 مقعداً نيابياً متبقياً من بين 40 مقعداً، و23 مقعداً بلدياً متبقياً من بين 30 مقعداً، إذ لم يحسم السباق سوى في 9 مقاعد نيابية و7 بلدية فقط.

ولا شك أن هذا المشهد الذي تجددت مفرداته ثانية عقب انتخابات 2014، حظي بكثير من الثناء والتقدير، فضلاً عن الاهتمام من جانب وسائل الإعلام المختلفة، والدوائر السياسية والدبلوماسية، ليس فقط لأن هذا المشهد عبر عن مستوى وعي وتحضر الشعب البحريني الحي، الذي لا يمكن أن ينفك عن أداء الواجب الوطني والمهمة المقدسة المناطة به، وإنما لأن هذه المنافسة والمشاركة الجماهيرية الكبيرة التي وصلت إلى 67 % للانتخابات النيابية وما يقارب من 70 % لانتخابات المجالس البلدية، أكدت رسالة المجتمع البحريني لكل من يهمه الأمر، وهي الرسالة التي ما فتئ يشدد عليها المجتمع بأسره منذ انتخابات 2010، وتأكدت مع الانتخابات التكميلية في عام 2011، وكذلك في انتخابات 2014.

وفحوى هذه الرسالة هو أن قرار الشعب البحريني بيده وحده، ولا يرتهن هذا القرار لدعوة من هذا أو مقاطعة من ذاك، وأنه لن يتخلى عن حقه وواجبه في أداء الدور المناط به كمحور فاعل من محاور العملية السياسية التي لا يمكن أن تقوم إلا به، حيث يعول عليه دوما في تثبيت دعائم وأركان قيم المحاسبة والمساءلة والرقابة والشفافية باعتبارها الركن الركين للعهد الإصلاحي لجلالة العاهل المفدى.

وقد عبرت الرسالة دائماً عن أحقية المجتمع البحريني وحده بمكوناته المختلفة وسعيه الدؤوب لإيصال الأفضل دائما لمواقع عملية صنع القرار، وأنه باستطاعته وعبر الآليات الشرعية اختيار هذا وعدم اختيار ذاك، مما يجسد إيمانه المطلق بقدرته للتعبير عن نفسه، وإقراراً منه بدور الأدوات الديمقراطية وأهميتها في العمل السياسي.

المشهد الثاني يتعلق بمسار التجربة الديمقراطية البحرينية التي كانت ومما زالت مثار حسد وحنق من جانب بعض الأطراف، والذين حاولوا مراراً وتكراراً التأثير عليها بترويج دعوات الانعزال والمقاطعة تارة والتهديد بالمشاركة تارة أخرى.

وعلى الرغم من هذه الدعوات والتهديدات، أثبت الشعب البحريني بخروج الجزء الأكبر من كتلته التصويتية الواعية، التي تعد الأكبر في تاريخ انتخابات المملكة الحديث، أنه لا يمكن أن يسمح لكائن من كان بأن ينال من ثوابته، أو يزعزع من كيانه، أو يهدد مناخ أمنه وأجواء استقراره.

وقد عبرت الهجمات الإلكترونية والرسائل النصية التي تعرضت لها البحرين ومواطنيها خلال الأيام الماضية، وتحديدا يوم أمس، عن هذه المحاولات البائسة والفاشلة التي أطلقتها أطراف وقوى لا تضمر سوى الشر للمملكة، ورمت إلى التأثير على سير العملية الانتخابية، وترويع الناس ومنعهم من أداء ونيل أحد أهم حقوقهم المدنية والسياسية، وهو حق الانتخاب والمشاركة والانخراط في تداول الشأن العام.

وكانت الإدارة العامة لمكافحة الجرائم الإلكترونية قد أشارت إلى أنه تم رصد نحو 40 ألف رسالة إلكترونية استهدفت التأثير سلبا على العملية الانتخابية، وذلك في إشارة لبعض الرسائل التي تلقاها مواطنون، وتدعي أن أسماءهم محذوفة من كشوف الناخبين، وهو ما استدعى أن يصدر الشيخ خالد بن علي آل خليفة وزير العدل والشؤون الإسلامية والأوقاف رئيس اللجنة العليا للاشراف على سلامة الانتخابات تحذيراً أكد فيه أن مثل هذه الرسائل مزورة وغير صحيحة، ويجري التعامل مع من أطلقها، وهو ما أكدت عليه وزارة الداخلية نفسها.

ولا تنفصل هذه الهجمات بالتأكيد عن حقيقة استهداف البحرين من جهات خارجية، لا سيما عن طريق الهجمات الإلكترونية الجديدة، والتي يبدو أن اللجوء إليها جاء بعد أن مني القائمون عليها بالفشل والإحباط لمنعة البحرينيين ومستوى وعيهم بالمؤامرات التي تحاك ضدهم، وتماسك جبهتهم الداخلية.

وقد نجحت الجهود الأمنية المبذولة في التصدي لخطر هذه الهجمات، حيث تعاملت الأجهزة المختصة مع نحو 697 قضية إلكترونية عام 2017، أحيل 449 منها للنيابة العامة، وتتمثل أغلبها ،إضافة للاحتيال في إساءة استعمال أجهزة الاتصالات السلكية واللاسلكية والسب والقذف وغيرها.

المشهد الثالث يتعلق بمشاركة فئات جديدة في الدورة الانتخابية الحالية، منها المرأة والشباب، والاحتمالية الكبيرة لدخول وجوه ودماء جديدة للمجالس التمثيلية المقبلة، ويفسر مراقبون ذلك بسببين، فمن ناحية أشارت تقارير إلى أن عدد من ينتخبون لأول مرة ضمن الكتلة الانتخابية لانتخابات 2018 بلغ نحو 56 ألف مواطن، وذلك بالمقارنة بين الكتلة الانتخابية لانتخابات 2014 والكتلة الانتخابية لهذا العام، وهي تتراوح بين 349 ألفاً و365 ألفاً على التوالي.

ويتم الربط بين ذلك وبين الرسالة التي وجهها وزير العدل والشؤون الإسلامية والأوقاف رئيس اللجنة العليا للاشراف على سلامة الانتخابات لهذه الفئة قبيل إجراء الانتخابات، وذلك لتشجيعهم على الانخراط في الشأن العام، وأهمية المشاركة بأصواتهم في الانتخابات، وهو على ما يبدو ما تم فعليا بالأمس، وسيظهر جليا في جولة الإعادة يوم 1 ديسمبر 2018 المقبل.

وقد أكد على هذا المعنى الرئيس التنفيذي لانتخابات 2018 في تصريحات أكد فيها وجود مشاركة فعالة من جانب شباب البحرين في الجولة الأولى من الانتخابات، وذلك لأنهم يسعون لأن يكون لهم صوت مؤثر في العمل السياسي البحريني في المرحلة المقبلة.

من ناحية أخرى، يشار إلى ما يعرف في الأدبيات السياسية بـ "التصويت العقابي"، ويقصد به اتجاه المصوتين، ومنهم فئة الشباب، إلى اختيار نواب جدد بحيث يكونوا أكثر حماسا وقدرة قياسا بنظرائهم من نواب المجالس السابقة، وذلك بدعوى أنهم لم يكونوا عند حسن الظن بهم، وأنهم كانوا دون الطموح المتوقع منهم.

وبطبيعة الحال، فإن الفئة الأكبر من النواب الجدد التي تتنافس على مقاعد المجالس التمثيلية في الجولة الثانية يقع جزء كبير منهم في التركيبة العمرية التي تقرب من اتجاهات الشباب في العمر والثقافة والفكر، ويتم الربط بين ذلك وبين أكبر مشاركة للعنصر النسائي في الانتخابات الحالية، حيث سجلت انتخابات 2018 رقماً قياسياً فيما يتعلق بمشاركة المرأة البحرينية، وذلك بواقع 47 مرشحة من بينهن 39 لمجلس النواب و8 للمجالس البلدية.

وبحسب النتائج المعلنة للانتخابات، فقد حازت سيدتان بالشمالية والجنوبية على مقعديهما النيابي من الجولة الأولى، وتتنافس 9 سيدات أخرى لنيل عدد من المقاعد في الجولة الثانية، كذلك الأمر بالنسبة للانتخابات البلدية، حيث حازت سيدة واحدة على مقعد لها بالتزكية، وتتنافس 3 سيدات أخرى في الجولة الثانية.

لقد عبرت نتائج الانتخابات عن وحدة الشعب البحريني والتفافه حول قيادته، ولا أدل على ذلك من حقيقة ما كشفت عنه مشاهد الأمس، وجسدت حقيقة المشاركة في أجل معانيها، وذلك لاختيار أفضل المرشحين القادرين على التعبير عن الناس، تلك المشاركة التي جاءت من كل المستويات التي يحق لها التصويت، وبالذات من الفئات الخاصة كالمرأة والشباب، فضلاً عن كبار السن، ودعت إليها كل مؤسسات الدولة وجمعياتها ورموزها ونخبها وقياداتها الفكرية.

كتب: محمد شحات