كغيمة بيضاء تبددت في سمائها. كقطرة ندى انداحت وذابت على وجه وردة. في هدوء ناعم رحلت ريم بنا.. كفراشة مسافرة ساعة غروب سافرت ريم. يوم وفاتها أعاد الجمهور اكتشافها. كثيرون لم يسمعوا أغانيها، وسمعوا فقط ضجيج الحزن بوفاتها. هي ابنة وقت لا ينتمي لهذا الزمن. هي صورة الجدات العربيات في زي الشباب الذي لا عهد له بالنزق. تحس أن رائحة الأرض تفوح من عطرها، وأن قوة الصخور المعمرة في الجبال والوديان تغذي قلبها الممتلئ حناناً وحباً وأملاً وضحكات تداعب طيور الفجر. هي ابنة القضية وصوتها الذي صدح والذي اختفى ثم رحل. هي نغم فلسطين الأليف الغريب والمغترب في واقع أصبح يسأل ما معنى فلسطين؟ ولماذا فلسطين؟!

اختارت المطربة الفلسطينية ريم بنا الأصعب. اختارت الوطن والقضية والإنسان. اختارت أن تكون النموذج. فكانت لوناً مختلفاً فعلاً. حين تعتلي ريم المسرح وتغني تجسد فلسطين بثوبها الفلسطيني الموشى وحليها الفضية العريقة ووقفتها الراسخة وصوتها العذب الجسور. هي لا تغني بوقار الأساتذة الأولين حين يجلجلون الساحات بأغاني الأوطان. وهي في دلالها وخفة روحها أمام الميكرفون لا تعرف الابتذال والافتعال. ريم بنا نمط من الفنانين الملتزمين الذين هجرتهم الشهرة واستوطنوا أقصى النقيضين: النخبة والشعبوية، تلك المعادلة الصعبة التي لا تتقنها إلا ريم بنا ومن سار في ذك الدرب العسير من الفن الجاد والهادف. غنت ريم قصائد كبار شعراء فلسطين، وغنت الشعر الصوفي، والأغاني الشعبية. ولو أنها غنت بمنطق «السوق» وبمظهر «السوق» وبكليبات «السوق» لربما كانت واحدة من مطربي العرب خاطفي الأضواء والحفلات والسهرات والفضائيات.

صراعها مع مرض السرطان كان فصلاً صلباً في سيرتها واستمراراً لمقاومتها الغزاة والطغاة والأشرار. ولكنه كان أيضاً منعطفاً محزناً ومؤلماً لمتابعيها ومحبيها الذين عايشوا انهيار جسدها ووثبات روحها المقاومة. كان يعز على محبيها مشاهدة ريم الجميلة الحلوة تفقد شعرها مرة ثم تستعيده وينطفئ ضوء خدها مرات ثم يشرق. وربما شعر كثير من محبيها بالانكسار حين خسرت صوتها في نوبة شلل أحبالها الصوتية، في حين شعرت ريم أنها على موعد مع معركة مقاومة جديدة عليها أن تخوضها وألا تخسرها. دائماً تذهلنا المرأة التي تسكن القوة أعماقها كنيران بركان يرفض أن ينطفئ. شخصياً.. شعرت بهزيمة مريرة حين عرفت بفاجعة فقدان ريم لصوتها السماوي. ثم شعرت بهزيمة أكبر حين شاهدتها تعلن أن ذلك لن يثنيها عن الغناء وعن الأمل وعن التفاؤل وعن المقاومة. نحن الذين لا نعيش ذاك العالم من المآسي نبدو أكثر هشاشة من سكانه. فطوبى لأهل المآسي ما أعظمهم.

في يوم إعلان وفاتها غدت ريم بنا مكتملة على نحو يليق بقوتها. كل الذين لم يسمعوا بها عرفوا سيرتها دفعة واحدة، وانجرفوا في دهشة مباغتة. دفعة واحدة تدفقت في وسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الإعلامية مقاطع لأغانيها ومقابلاتها وأفلامها القصيرة، فكان يوم وفاتها ميلاداً جديداً وبعثاً مظفراً تقاوم فيه القدر الأكبر.. الموت. لروحك السلام يا ريم ولجسدك الراحة والنعيم، والخلود لصوتك ما صدح الأفق باسم فلسطين.