أصبح أمراً اعتيادياً أن ينشغل المجتمع البحريني بين فترة وأخرى بقضايا صغيرة تفور «كم يوم» ثم تتبدد كما يتبدد زبد البحر. ظاهرة تصعيد تلك القصص الصغيرة وتمطيطها «كم يوم» وإشغال الناس بها، ثم إطفاؤها فجأة، ظاهرة اجتماعية افتعالية تستحق الدارسة. كيف تبدأ القصة وما هي أدوات تسعيرها ثم كيف تنتهي فجأة كأنها لم تكن؟
آخر ضجاتنا البحرينية: موضوع مناقشة مجموعة من نواب «الشعب» لأزمة تنقيط مكيفات الهواء للمياه وأضرار تلك المشكلة على البيئة وجمال البلد. وكان أحد النماذج المضروبة لذلك «داعوس» بيت أحد النواب الذي يزدحم بما يقارب عشرين مكيفاً تصب كلها مياهها في ذلك «الداعوس» الضيق وسط لهيب الصيف. مما حدا بسعادة النائب أن يقترح على الشعب أن يركب «هوز» صغير على فتحة المكيف ويضع «قوطي» تحت «الهوز» لتصب المياه فيه، ويتم التناوب على تفريغ «القوطي» بدلاً من أن يفرغ المكيف مياهه في «الداعوس»!
ولتوضيح المصطلحات الشعبية فإن «الداعوس» باللهجة البحرينية يعني الممر الضيق في الأحياء القديمة، و«الهوز» يعني أنبوب مياه، و«القوطي» هو العلبة. وكلها عناصر تدل على الضيق. ضيق العيش الذي يعانيه سكان «الدواعيس»، وضيق ذات اليد التي لا تمكنهم من استبدال مكيفات لا تنقط مياه بالمكيفات القديمة، ولا تمكنهم من تركيب الحوامل المصرفة للمياه مباشرة. وضيق أفق بعض المناقشات في مجلس النواب التي تزيد من ضيق المواطن المتضايق أصلاً.
علينا أن نلاحظ أن مستوى هذه المناقشات يدور في مرحلة شهدت فيها البحرين زيادتين متتاليتين لأسعار الوقود، وارتفاعاً جنونياً في الأسعار، وتلويحاً حكومياً بإلغاء مكافأة نهاية الخدمة ورفع سن التقاعد. وهي القضايا التي تشغل سكان «الدواعيس» وسكان الشاليهات معاً. وعلينا أن نلاحظ أننا نقف على أعتاب انتخابات نيابية قريبة سيكون فيها هذا المجلس أمام جرد حساب لمناقشاته وإنجازاته. ووسط كل الضجيج الذي تم افتعاله في قصص صغيرة، فإن أداء المجلس النيابي كان غائباً أمام قضايا الفساد الموثقة في ملفات ديوان الرقابة المالية والإدارية، وغائباً في الدفاع عن الوضع الاقتصادي للمواطن، وغائباً في تقديم مقترحات جادة تقنع الناخبين بإعادة ترشيح كثير من أعضاء هذا المجلس، مثلما أقنعتهم بحمل «قواطي» ووضعها تحت «هوز» المكيفات حماية لبيئة «الدواعيس» في أشهر الصيف.
هذا الغياب عن الدفاع عن حقوق المواطن ووضعه يفسر لنا الحضور الكاسح للقصص السطحية، هذا الصمت عن المشكلات الجوهرية في المجتمع فتح الباب للصخب في الجدال على موضوعات ذات طابع شخصي ونفعي. هذا الفراغ لا يملؤه إلا الحسابات الوهمية على «تويتر» ومئات «البرودكستات» المهيجة على هواتفنا والتي تتعمد جرنا إلى زوبعات قضاياها المفتعلة، والتي تنتهي فجأة دون نهاية درامية واضحة.
والسؤال الذي يطرح نفسه منذ بدأت أصوات المساجد ترتفع معلنة استعداد الجمعيات السياسية الدينية للانتخابات، ومنذ بدأ الكثير من النواب إبراز أنفسهم على حساباتهم في اللقاءات العامة، ومنذ بدأت الجمعيات السياسية تعقد اجتماعاتها وترسم خرائط تحالفاتها: هل سيركز الشعب البحريني في اختيار نواب المجلس القادم، بحيث يختار مرشحين يمتلكون فهماً للحالة البحرينية ويملكون لغة وخطابا يرقيان لأن يخطبوا بهما تحت قبة البرلمان؟ هل سيحاسب الشعب البحريني بعض النواب الذين سيعيدون ترشيح أنفسهم عن تقصيرهم في مناقشة الملفات الاقتصادية والخدماتية والإنسانية المرتبطة بلقمة عيشهم ومستقبل أبنائهم؟ أم أن المجلس النيابي القادم سيطور من مناقشات «القواطي» إلى الحديث عن براميل القمامة أمام الأحياء الراقية؟