أكتب هذا المقال بالتزامن مع مرور عامين على أول مقالٍ لي في صحيفة «الوطن»، بعنوان «القيادة وفنونها». ومنذ ذلك الحين، تناولت في معظم مقالاتي مسائل تتعلق بتطوير الذات وتطوير الأداء المؤسسي، وبلغةٍ يدركها الجميع بمن فيهم صناع القرار في البلد، حيث كانت هذه المقالات تحت عناوين متعددة: «بناء الذات»، و«هندسة السياسة الخارجية البحرينية»، و«التنمية المؤسسية.. بين التخطيط والتنفيذ»، و«هندسة الوزارات والمؤسسات»، و«البحرينيون في الخارج».
إن مؤشرات تطور الأداء المؤسسي مرتبط بالإدارة، والنجاح الإداري مرتبط بأداء القيادات الموجودة في المؤسسة. والقيادات أنواع: قادةٌ مفكرون، وقادةٌ فنيون، وقادةٌ تنفيذيون. فبالنسبة للقائد المفكر، فهو يمتلك رؤيةً واضحةً لتحقيق غايات تصب في مصلحة المؤسسة، ولديه القدرة التحليلية عند اطلاعه على أمورٍ ذات صلة بالعمل، ويساهم في إعداد وتنفيذ آليات لإعداد الصف الثاني والثالث والرابع -إذا أمكن- من القادة. وبالنسبة للقادة الفنيين، فإنهم يتولون الإشراف على جوانب من الأعمال اليومية للمؤسسة، ويقدمون الدعم الفني والاستشاري لها. أما القادة التنفيذيون، فإنهم يشكلون أدوات تنفيذ، حيث يتولون الإشراف على تابعيهم تنفيذاً لسياسات المؤسسة دون إضفاء أي صبغةٍ فنيةٍ أو إبداعيةٍ على أعمالهم.
إن وجود الأصناف القيادية الثلاثة في مؤسسةٍ واحدة لا يضر بسير العمل إذا كان توزيع الأدوار بين القيادات منطقياً ويلامس احتياجات العمل. كما أن اختلاف قدرات وثقافات منتسبي المؤسسة -وهو أمرٌ صحي- يبرز العناصر التي ستنضم إلى الصفين الأول والثاني من القياديين.
وأرى أن أنسب مرحلة عمرية بالنسبة لمعظم الوظائف القيادية هي من «35» سنة إلى «55» سنة، حيث يكون المرء في أوج عطائه، ويقبل بأية تغييرات أو نقلات في منظومة المؤسسة. أما المرحلة العمرية المناسبة للوظائف ذات الطابع الاستشاري فهي من «40» سنة إلى «65» سنة، وهنا نجد أن المرء قد نال حظه من العلم والمعرفة والخبرة والدراية بالأمور، ومن المهم أن تولي الدولة عنايةً شديدة بهذه الفئة تحديداً بهدف الاستفادة من خبراتهم، وتمكينهم من إعداد قادة المستقبل في البلاد. أما من تعدى مرحلتي القيادة والاستشارة، فهو يعتبر وجيهاً وله الاحترام والتقدير، وحبذا لو تم إشراكه في أية مشاورات ذات علاقة بالمسائل العامة.
وهناك قادة خلفوا وراءهم إرثاً كبيراً وقيادات قوية تشرف على قطاعات المؤسسة خلال السنوات التي تلي رحيل القادة الكبار. ويعتبر الوزير الراحل طارق المؤيد -وهو أقوى وزير إعلامٍ في تاريخ البحرين، من وجهة نظري- خير مثالٍ لذلك، حيث عمل رحمه الله على تهيئة القيادات التي ظلت تمارس مهامها حتى مطلع الألفية الحالية، أي خلال العشر سنوات التي تلت مغادرة طارق المؤيد لمنصبه.
وفي حالةٍ أخرى، تجد القائد القوي يترك موقعه في الوزارة أو المؤسسة دون أن يهيئ أحداً لتولي زمام الأمور من بعده وبالتالي يترك فراغاً عند رحيله، في حين يعمل بعض تابعيه على ملء هذا الفراغ حتى وإن لجؤوا إلى أساليب غير مشروعة. فالفساد لا يولد إلا المصائب.
وللحديث بقية..