بعد صلاة الجمعة، توجهت مع صاحبي لأحد المجالس، والذي كان صاحبه يلح علي دائماً لأزوره، ولم أجد مانعاً من تلبية الدعوة، كرامة وتقديراً لصاحب الدعوة.

دخلنا وبادرنا الجالسين بالتحية. رجال وقورون، وبعض منهم لهم مواقعهم في المجتمع، وشخصيات بعضهم تراهم عن بعد فتكن لهم الاحترام، وتتوسم بأن القرب منهم والحديث معهم سيزيد من احترامك لهم.

بدأ الجالسون تبادل الأحاديث، ففوجئت بأن بعضاً منهم أخذ يتحدث عن «فلان» و«علان» من البشر، هذا فعل كذا، وذاك قام بكذا، وبعضهم أخذ يتحدث عن تفاصيل حياة آخرين.

تذكرت ما تربينا عليه، من والدنا أطال الله في عمره، وما تعلمناه من رجال أفاضل كنا نراهم ومازلنا نماذج طيبة في المجتمع، بأن الخوض في سيرة الناس ليست من صفات المروءة في شيء.

قلت موجهاً حديثي لمن كان يخوض في سيرة فلان وعلان من البشر، بأن في سياق الحديث الشريف عن رسولنا صلوات الله عليه قوله بأنه «من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة»، بالتالي الحديث عن الناس بأسلوب «الحش» و«العقرة» الذي ساد في مجالسنا ومجتمعاتنا، يحول مكان اجتماع البشر الذي تدار فيه مثل هذه الأحاديث، لأوكار وبئر يخرج منها الخبث ويتم فيها «أكل لحوم البشر»، بدل أن تكون مجالس طيبة تنضح بمكارم الأخلاق.

ربما خجل البعض من هذا الكلام، إذ سكتوا، ولربما بعضهم قال في قرارة نفسه «من هذا الدخيل الذي جاء لمجلسنا ليعلمنا الأدب»؟! ولربما اعتبروا ما قلت «وقاحة»، لكن قناعتي بأن الجلوس في أي مكان، ورؤية «المنكر» يحصل، سواء بأفعال أو أقوال، ومن ثم السكوت عنه، هو «قبول ضمني» بما تسمعه أو تراه، والساكت عن الحق شيطان أخرس.

دخل شخص للمجلس، وبعد السلام، بدأ بالحديث، وإذ بالصدمة أنه يتحدث عن النساء، متمادياً بدخوله في الأعراض والقذف. هنا وقفت مستئذناً صاحب المجلس بالمغادرة، فقال لي لمَ العجلة والغداء على وشك التقديم؟! فأجبت بأنه مع احترامي الشديد له، لكنني من الاستحالة أن أجلس في مكان يتم فيه «قذف الأعراض» والحديث بالسوء عن الناس، ولا سيما النساء، إذ من يخوض في مثل هذه الأحاديث لا يمكن اعتباره رجلاً أصلاً، إذ ليس هذا من شيم الرجال، وليس هذا مما علمه إياناً ديننا، ولا أخلاقياتنا ولا عاداتنا.

هذه حادثة، وأجزم بأن لها استنساخاً متكرراً في مجالس كثيرة، مجالس رجال، لكن ما يدار فيها والله لا يرتقي لوصف الرجال، أكل لحوم بشر، ونشر لخصوصيات أفراد، وقذف وإساءات، وكلام قبيح يمس رجالاً ونساء.

أوصلنا لهذا الدرك المنحط من الأخلاقيات؟! هل انقرض «هرمون الرجولة» وباتت معرفة «رجال أفاضل حقيقيين» نوعاً من المهمات المستحيلة؟!

لماذا الخوض في أعراض الناس؟! لماذا محاولة الدخول في خصوصيات البشر؟! لماذا السعي والاجتهاد والبحث والتطفل على حياة الناس؟! لماذا مراقبتهم في كل شيء؟! لماذا هذا الانشغال «السقيم» بحياة الآخرين؟!

الأمراض المجتمعية كثيرة وعديدة، لكن أقذرها هي هذه التصرفات التي تجعلك شخصاً لا يعرف كيف يعيش حياته، بل حياتك قائمة على «اقتحام» حياة الآخرين، وليتك تعرف عنهم وتسكت، لكن قمة الانحطاط أن تحول حياة غيرك لمادة تنشرها في مجالس، وقمة العيب أن يستمع لك الرجال ويسكتون، في إعلان لموت «الرجولة» و«النخوة».

الابتعاد عن مثل هذه المجالس، ومثل هؤلاء البشر «نعمة» يكتبها الله لك. وكم في المقابل من مجالس طيبة نقية بنقاء أصحابها وروادها، من رجال هم مثال للشهامة والنخوة ورفعة الأخلاق.

رسولنا الكريم يقول: «المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل». والدين متمم لمكارم الأخلاق، ولا دين لمن أخلاقه في الحضيض.