كثيرون يظنون بأن العمل في السلك الدبلوماسي «سهل» جداً، وهناك بعض يختصره في مزايا للدبلوماسيين على رأسها جواز السفر الدبلوماسي والحصانة، والتواجد في مناصب متباينة في السفارات والقنصليات والملحقيات الخارجية، فيما يعتبرونه «سياحة» على حساب الدولة، وهذان مفهومان خاطئان جداً.

من درس علم «الدبلوماسية» يدرك تماماً أبعاد العمل الدبلوماسي، ويستوعب أن المعادلة لا تستقيم في هذا العمل، إن لم يكن شاغلوه أصحاب كفاءة وقدرات متميزة.

شخصياً اكتشفت كثيراً من الجوانب والتكتيكات من خلال دراستي للماجستير في بريطانيا في كلية «الاتصال الدولي والدبلوماسية»، إذ ما كان يبدو لي عملاً سمته الغالبة المناورة والتمثل بأوجه متعددة من التعاملات التي تحكمها الظروف المتقلبة، هو في أساسه علم له أصوله وأعرافه، وله استراتيجياته المتقدمة، وأساليبه المتطورة.

بالتالي تدرك بأن الخلل لا يكون في «علم الدبلوماسية» بطرائقه المتعددة وأساليبه المتشابكة وتكتيكاته المعقدة، بل الخلل في بعض الأمثلة يكون في «الأدوات» والتي تمثلها هنا الشخوص التي تشغل هذه المناصب.

بالتالي كنت أقول إنه «ليس كل حامل لصفة الدبلوماسية هو دبلوماسي حقيقي»، وأعني بـ«الحقيقي» ذاك الذي يمارس هذا الدور وهو متشرب لعلومه، الناجح في توظيفها لصالح بلاده وقضاياها، والمستخدم لفنونها في تحقيق المكاسب الوطنية وفي تعزيز العلاقات مع الدول، وقبل كل ذلك التمثل بصوت «السفير الوطني» الذي يتحدث عن بلاده بارزاً إنجازاتها ومدافعا عنها.

لذلك «عرابو» الدبلوماسية الذين سطعت أسماؤهم بقوة في العالم، هم أولئك الذين قادوا هذه المهنة بصفاتهم الدبلوماسية، لكنهم طوروها، وتركوا بصمة لا يمكن نسيانها، وباتوا أعلاماً في هذا المجال.

ولن أجد هنا مثالاً أبلغ من «أمير الدبلوماسية» الخليجية والعربية الراحل الكبير الأمير سعود الفيصل أسكنه الله فسيح جناته، إذ هذا الرجل الخالد بمواقفه وأقواله وبطولاته، لم يكن مجرد رجل، بل كان مدرسة عظيمة يتعلم منها الدبلوماسيون جميعاً. وعلى خطاه ونهجه يمضي كثيرون، وباتوا يسطعون وتحولوا لمفخرة لدولهم.

المسألة لا تقتصر على وزراء الخارجية أو السفراء الذين هم ممثلو قيادات بلادهم في الدول التي يرسلون لها، بل «العمل الدبلوماسي» يشمل كل شخص يعمل في تلك الكيانات التي تمثل البلد، سواء أكان نشاطها داخلياً أم خارجياً، خاصة ممن يشغلون المناصب الهامة، وممن يتواجدون في السفارات بالخارج.

أسترجع هنا توصيات دراستي التي تشرفت بتقديمها لجلالة الملك وسمو رئيس الوزراء وسمو ولي العهد، وفيها تحليل عن الدور المطلوب لسفاراتنا في الخارج في ظل مواجهة الهجمات المغرضة والاستهدافات والفبركات، مثلما حصل في 2011 بكثافة، وكيف أننا في حاجة لإعداد كوادر دبلوماسية مهيئة متخصصة قادرة على استيفاء متطلبات وأهداف العمل الدبلوماسي.

في الأزمات كل وطني غيور يتحول لدبلوماسي وإعلامي وحتى جندي في دفاعه عن وطنه، ويحمل الدبلوماسيون عبئاً كبيراً في هذا الجانب، من خلال العمل المرتبط بالاتفاقيات المختلفة والبروتوكولات الدولية، مع الحرص على الممارسة في ظل فنون وأعراف العمل الدبلوماسي.

لذلك تجد أحياناً دبلوماسيين يمثلون بلادهم خير تمثيل في دول معينة، وآخرون لا يكون أداءهم بنفس النسبة القوية، وكل هذا يعود لمسألة الإعداد والتأهيل والتطوير.

لذلك حينما أرى أن هناك برنامجاً يطرح من وزارة الخارجية البحرينية معني بإعداد «دبلوماسيي المستقبل»، من شباب بحريني واعد، أعتبر ذلك تحقيقاً لحاجة طرحت وكتبت سابقاً، نابعة من حاجة ملحة، مقرونة بوجود كوادر شبابية فيها الخير الكثير، لكنها تحتاج للاحتواء والتوجيه والصقل والإعداد الجيد.

بالتالي هي خطوة جريئة وشجاعة، فيها تمازج بين الثقة الممنوحة للجيل الشاب الوطني الغيور على بلاده، وبين الدور المسؤول من قبل وزارة الخارجية لإعداد الصفوف الثانية والثالثة من دبلوماسيي المستقبل القادرين على مواكبة المتغيرات العالمية بطرق ذكية ومتقدمة مستخدمين علوم الدبلوماسية الحديثة.

التطوير مهم في أي جانب كان، والمبادرة المطروحة من قبل الخارجية تجاه الشباب، مبادرة تستحق الدعم والاهتمام، فأمامنا الجيل القادم لحمل مسؤولية الدبلوماسية البحرينية، إن اهتممنا بهم بكل جد، وهيأنا لهم سبل تلقي العلوم المتقدمة، والأهم منحهم الثقة بأنهم قادرون.

بالتوفيق لشباب البحرين، وضعوا الأمثلة الساطعة أمامكم، كالأمير سعود الفيصل رحمه الله، ومن سار على خطاه في دفاعه عن بلاده، وتمثيلها خير تمثيل في مختلف المحافل.