يعيش عالم اليوم تحت ظلال التفاهمات التي وضعتها الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، وهي الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي وبريطانيا. وقد وضعت الاتفاقيات التي توصل اليها الحلفاء في مؤتمر طهران، ومؤتمر يالطا، ومؤتمر بوتسدام، أسس التعاون والترابط فيما بينها، في المجالات السياسة والاقتصادية والعسكرية، وضبطت ايقاع العلاقات الدولية. والاهم ان المنتصرين تفاهموا على استبدال الصراعات العسكرية بصراعات سياسية تكون ساحتها منظمة الأمم المتحدة، التي قرروا إقامتها بعد انهيار سابقتها عصبة الأمم. كما تفاهموا ضمناً على تجنب الصراعات المسلحة الشاملة، وجعل الحروب التي تنشب هنا وهناك حروباً محدودة. وانتظمت العلاقات الدولية على هذه الأسس العامة، لغاية الآن. ترامب يطالب بثمن حماية أوروبا الجديد هو تسارع التطورات خلال الأشهر الماضية التي ربما تطيح بهذه الأسس وتلغيها، جملة وتفصيلاً. فبينما لم تكد أوروبا تفيق من صدمة قرار بريطانيا بالخروج من الاتحاد الأوروبي، حتى جاءتها صدمة أشد وأعنف، وهي فوز دونالد ترامب في انتخابات الرئاسة الأمريكية، الذي عبر عن نيته إجراء تغييرات جذرية في سياسة بلاده، على الصعيد الخارجي. فقد شكك مثلاً بأهمية حلف شمال الأطلسي «الناتو»، ووصفه بأنه «مكلف وعفا عليه الزمن»، وغير مناسب لعصر «محاربة الإرهاب». وانتقد بعض الدول الأعضاء التي لا تفي بالتزاماتها المالية، وتوعد بأن لا تلتزم واشنطن بتعهداتها إلا إذا دفعت باقي الدول حصتها، وأنها ستخفض حجم مشاركتها إلى الحد الأدنى. ولا يرى ترامب في حلف الناتو «تحالفاً للدفاع عن القيم الغربية وإنما تجمعاً لدول صغيرة ضعيفة يجب عليها أن تدفع مقابلاً مالياً للولايات المتحدة لضمان أمنها»، وأن موضوع الكلفة غير قابل للنقاش بالنسبة له. مخاوف أوروبا من مستقبل مجهول أثارات انتقادات ترامب لـ«الناتو» مخاوف لدى الدول الأوروبية. ثم أصبحت المخاوف، بعد فوزه، هواجس ورعب من مستقبل مجهول. وسارعت قيادة الحلف إلى محاولة استرضاء الرئيس المنتخب بالكلام الدبلوماسي المنمق، الذي لا يجيده ترامب ولا يفهمه. وبلغ الأمر أن علقت وزيرة الدفاع الألمانية على موقف ترامب بقولها إن عليه أن يعلم أن الناتو «حلف للدفاع عن القيم وليس شركة يتم التعامل معها بمنطق الربح والخسارة»، في إشارة إلى خلفية ترامب في مجال المال والأعمال. ثم سارعت أوروبا إلى وضع خطة لتشكيل قوات أوروبية للرد السريع دون الولايات المتحدة. وربما تصبح هذه القوات نواة لجيش أوروبا، في المستقبل! القشة التي قصمت ظهر البعير كان فوز ترامب بمثابة صدمة كبيرة لقيادة حلف «الناتو». فقد تم تشييد مقر جديد للحلف، قرب بروكسل، كلف مليار ونصف المليار دولار، وكان مسؤولو الحلف يعولون كثيراً على حفل افتتاحه، الربيع القادم، لدرجة أنهم هيئوا أنفسهم وطبعوا بطاقات الدعوة للحفل، وكانت المراسلات الداخلية تتم بصيغة المؤنث «هي»، على اعتبار أن هيلاري كلينتون ستكون حتما هي رئيسة الولايات المتحدة، وستحضر الحفل وتُلقي كلمة فيه. ويا لوقع الصدمة النفسية عندما فاز ترامب! هذا يدل على سطحية تفكير قيادة الحلف ومسؤوليه، الذين ينشغلون طوال عام في ترتيب حفل، مدته ساعتان. كان يفترض أن ينشغلوا بصلب واجباتهم، وهي الاهتمام بالشؤون والتحديات الأمنية والعسكرية، وغير ذلك من مهمات الحلف. فهل يُلام ترامب على موقفه منهم؟ المهم أنه تم تأجيل حفل الافتتاح إلى الصيف نظراً لأنهم غير متأكدين من حضور ترامب. فإن حضر سيستغرق الأمر وقتاً لتغيير صيغة المراسلات من «هي» إلى «هو». أما إن لم يحضر فسيكون غيابه القشة التي قصمت ظهر البعير، بما يعني نهاية الحلف. الملفت أن الصدمة لم تكن بسبب تصدع الحلف وقُرب انهياره، بل كانت بسبب ضياع جهود ترتيب آخر حفلاته! أليس هذا هبوطاً في المستوى السياسي للحلف والقائمين عليه؟ هيمنة روسيا أو هيمنة أمريكا تأسس حلف شمال الأطلسي «الناتو» عام 1949، بعد بروز توترات بين الكتلتين الشرقية والغربية، فيما عُرف بالحرب الباردة. واستهدف حماية الدول الأعضاء، وحفظ الأمن والاستقرار، ومحاربة التهديدات الأمنية، كما تنص اتفاقية التأسيس التي وقعتها 12 دولة، ثم انضمت إليها 16 دولة أخرى لاحقاً. ويبلغ العدد الإجمالي لجيوش الدول الأعضاء 3.5 مليون جندي. وتمتلك الولايات المتحدة القوة العسكرية الأكبر في الحلف. إذ يبلغ تعداد جيشها 1.4 مليون جندي، يليه الجيش التركي وقوامه 613 ألف جندي، ثم جيش فرنسا بـ 222 ألف جندي، وبريطانيا بـ 205 الاف جندي، ثم الجيش الالماني 180 ألف جندي، وإيطاليا لديها أيضاً 180 ألف جندي. ولسوء حظ الدول الأوروبية أنها تواجه رئيساً أمريكيا جديداً يقول لها بكل صراحة: «لن نقدم لكم حماية مجانية بعد اليوم، ادفعوا الثمن وإلا سنتوقف عن حمايتكم». وهذا منطق جديد لدول أوروبا يضعها في حالة حرج، ويكشف مدى ضعفها. مجرد التلويح بهذا الموقف يسحب البساط من تحت أرجل الأوروبيين. فالبدائل إما أن تصبح القارة العجوز نهباً لأمريكا أو نهباً لروسيا. مجرد التفكير بهكذا نتيجة يُدخل الرعب في قلوب أهل أوروبا، فهم أمام خيارين، أحلاهما مر: إما الهيمنة الروسية أو الهيمنة الأمريكية، وعليهم أن يختاروا. والخلاصة إذن، أن انسحاب الدول الكبرى من تفاهمات ما بعد الحرب العالمية الثانية سينقل أوروبا من حال إلى حال. وربما تعود القارة، كما كانت من قبل، ساحة لمختلف أشكال التنافس، والنزاعات، والخلافات، والصراعات، والحروب. لقد احتمى الأوروبيون، خلال السبعين عاماً الماضية، بحلف «الناتو» ثم بالاتحاد الأوروبي. وها نحن اليوم نشهد كيف ينهار بنيانهم من القواعد، ويتفكك شيئاً فشيئاً، وبسرعة. أما نحن، فما علينا إلا أن نستعد من الآن لاستقبال لاجئين من أوروبا، «يبحثون عن فرص عمل وحياة أفضل»! فأهلاً بكم. إعلامي أردني