أوضحنا في الجزء الأول من المقال كيف اعتمد الإعلام الدولي في تحقيق أهدافه على وسائل إعلامه الكونية ووكالات أنبائه والشركات المتعددة الجنسية بالإضافة للإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، بهدف تصدير ثقافته ونموذجه الحضاري وفلسفته السياسية والاقتصادية والاجتماعية ثم أضافت هذه الوسائل آلية جديدة في معالجاتها الإعلامية وإنتاج خطابها الإعلامي تمثلت فيما يعرف بـ «التغيير» في العالم الثالث، تحت مظلة نشر المزيد من الحريات وحماية حقوق الإنسان، وهنا نبين أنه حين فشلت هذه السياسة في العديد من الدول اتجهت هذه الوسائل لإضافة نهج إعلامي جديد يتمثل في نشر حالة من الإحباط والتشكيك في ثنايا معالجاتها الإعلامية لأحداث العالم الثالث وقضاياه.
فقد أضاف الخطاب الإعلامي الدولي في الآونة الأخيرة لآلياته السابقة آلية جديدة، تتمثل في إثارة روح الإحباط والتشاؤم والنقد الهدام والرفض لمجرد الرفض، وتكريس حالة نفسية تستهدف سيكولوجية الشعوب، تكرس لديهم اليأس وعدم إصلاح الأحوال بجانب التضخيم في المعالجات الإعلامية، والتركيز على الأحداث والأخبار السلبية، وبالتالي تكرس لديهم مفاهيم الفشل وتنعدم الثقة في إمكانية تجاوز الأزمات، بجانب التشكيك في كل الجهود الوطنية المبذولة للإصلاح، مهما كانت النجاحات التي تحرزها الأنظمة السياسية في العالم الثالث في شتى المجالات، ومهما كانت الظروف السياسية والاقتصادية التي تعمل في إطارها.
وكان من نتيجة ذلك أن بات الخطاب العام السائد بين الشباب أو في مواقع التواصل الاجتماعي خطاباً ساخراً، ناقداً، رافضاً، متشككاً. وسيطر عليه النقد لمجرد النقد والرفض لمجرد الرفض، دون اعمال العقل والتفكير المنطقي وغاب التواصل بين أبناء المجتمع الواحد، وكل أصبح يتحدث دون أن يكون لديه الرغبة في الاستماع للآخر، وكانت شبكات التواصل الاجتماعي فضاء خصباً لانتشار هذه الثقافة، وباتت هذه الوسائل يطلق عليها وسائل «اللاتواصل الاجتماعي»، رغم أن هدفها الأساس هو التواصل الاجتماعي، وكرست هذا الإحباط والاعتراض والنقد غير البناء، لصعوبة متابعتها والسيطرة على فضاءاتها المختلفة، وكان الهدف من نشر هذه الحالة النفسية هو شيوع حالة من الإحباط والتحريض على المجتمعات بين الشباب المتفاعل مع الإعلام الجديد، لإنتاج حالة من الفرقة السياسية بين مكونات هذه المجتمعات، وبالتالي يظل انشغالهم بالخلافات، وإفشال بعضهم البعض، وتنتفي الوحدة والتآلف والانسجام بينهم، وبالتالي ينصرفون عن بناء مجتمعاتهم وتطورها.
والمشكلة أن كثيراً من أجهزة الإعلام في العالم الثالث قد وقعت في فخ هذه الوسائل الدولية بحجة نقد السلبيات من ناحية ولاعتمادها في استيقاء الأنباء الدولية على وكالات الأنباء الخارجية ذات الانتشار العالمي والقادرة على الوصول لمصادر الأنباء في العالم. وفي المقابل اهتم الإعلام الدولي في معالجاته للقضايا الغربية بتدعيم وتثبيت الفلسفة التي قام عليها أبنيته الاجتماعية سياسياً واقتصادياً واجتماعياً حيث إن الهدف الأساس للإعلام هو الحفاظ علي استقرار المجتمعات وزيادة قوتها وذلك وفقاً لما وضعه منظرو الإعلام الغربي من وظائف لهذا الإعلام التي من بينها وفقاً لرأي عالم الاتصال الأمريكي المعروف « هارولد لازويل» وظيفة زيادة ترابط المجتمع عبر تقوية العلاقات بين الحكومة والجماهير، وكذلك نقل التراث بين الأجيال وكذلك «لازرسفيلد» و»ميرتون»، فكانت أبرز وظائف الإعلام لديهما هو تدعيم المعايير الاجتماعية بينما رأى «ماكويل» أن تحقيق التماسك الاجتماعي من خلال التنشئة الاجتماعية ودعم الإجماع حول القضايا المختلفة وممارسة الضبط الاجتماعي هي أبرز وظائف الإعلام في المجتمعات الغربية.
كما لم ينسَ منظرو الإعلام الغربي أن يضعوا وظائف خاصة للإعلام في خدمة النظام السياسي تتمثل في ضرورة أن يساعد الإعلام القادة السياسيين في التواصل مع جماهيرهم وتوصيل قرارات الحكومة إليهم بشكل صحيح، إلى جانب تسهيل التماسك الاجتماعي من خلال زيادة فرص الانتماء وتقليل فرص الصراع وتماسك المجتمع وقت الأزمات والحروب، هذا بجانب ترسيخ الأوضاع الاقتصادية القائمة والترويج لها والسعي لإثبات فائدتها إلى جانب مساعدة السكان الجدد على الاندماج في المجتمع لتحقيق التكيف مع الأوضاع السائدة في المجتمع، كل ذلك لتأكيد دور الإعلام في تحقيق الاستقرار الاجتماعي والسياسي والاقتصادي في المجتمعات الغربية، وهو عكس المستهدف إحداثه في المجتمعات الأخرى.وكان من نتيجة هذا الازدواج في الأهداف والمعالجة الإعلامية أن الأحداث السلبية في العالم الثالث يتم معالجتها في الإعلام الدولي من منظور جماعي يرتبط بخصائص المجتمعات وفلسفتها الاجتماعية والسياسية، ولذا تقدم حالات العنف والتطرف والإرهاب على أنها سمة ترتبط بمجتمعات العالم الثالث، وإذا ما تم وقوع مثلها في الغرب عولجت من منظور فردي، يحصرها في الشخص القائم بالفعل، وليس سمة في المجتمع، وبنائه الاجتماعي والحضاري، بينما الإيجابيات والنجاحات في العالم الثالث تعالج من منظور فردي نادر التكرار، ولذا ففوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل في الآداب، لأنه نجيب محفوظ، وليس لأنه ابن الأدب العربي والثقافة العربية الضاربة بجذورها آلاف السنين، و»أحمد زويل « لأنه «الأمريكي» من «أصل مصري» دون النظر لعبقريته الخاصة أو بيئته التي نشأ فيها أو سنوات تكوينه العلمي الأولى، كما أن «دبي» هي نموذج اقتصادي يصعب تكراره. بينما تعالج الحالات المشابهة في الغرب على أنها خصائص مجتمعات مستمدة من نموذجها الحضاري الذي افرز هذه النجاحات الفردية القابلة للتكرار وهو ما أنتج في النهاية صورة نمطية سلبية عن العالم الثالث وإيجابية عن العالم المتقدم.
إن هذا يدفعنا إلى التأكيد على أن يكون لدينا الوعي الذي لا يجعلنا نستنزف جهودنا وطاقاتنا في الخلافات والانتقادات والجدل لمجرد الجدل لأنها معوقات أساسية لتقدم مجتمعاتنا وأن ننتبه لمقاومة الحرب النفسية التي تمارس بأسلوب مدروس ضد الشباب العربي عبر الترويج لسياسة الإحباط والتشكيك من خلال وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام الدولية، ومن هنا تبرز مؤسسات التنشأة المختلفة كالأسرة ووسائل الإعلام والمؤسسات التعليمية والدينية والسياسية لأنها الجدار الواقي من موجات الغزو الثقافي والإعلامي التي تستهدف شباب هذه الأمة والسيطرة على سيكولوجية شعوبها.
* أستاذ الإعلام المساعد - جامعة البحرين