تمتاز الانتخابات الأمريكية عادة بالديمقراطية الحقيقية، فهي تسمح بالتنافس بين من يرغبون، أياً كان أصلهم أو لونهم أو عقيدتهم أو سلوكهم، ومن هنا يتنافس فيها الإقطاعي ورجل الأعمال، كما يتنافس فيها ذو البشرة السوداء والبيضاء. ويتنافس فيها المثقف الانجلوساكسوني ومن الأقليات ذات الأصول الأيرلندية أو الأفريقية أو الألمانية، وربما يوماً ما يمكن أن يتنافس ذوو الأصول العربية، فمن الناحية الدستورية لا يشترط سوى أن يكون مولوداً على الأرض الأمريكية، بغض النظر عن أية اختلافات.
وحقاً، قيل عن المجتمع الأمريكي إنه بوتقة من التنوع، وينبغي علينا أن نحترم التنوع لدى المجتمع الأمريكي ونظامه وثقافته وتراثه. وعليه احترام التنوع في بلادنا ونظامنا وثقافتنا وتراثنا. وهذا هو أساس الحرية كما عبر عنها المفكر الفرنسي فولتير بقوله «أخالفك رأيك ولكنني أدافع عن حقك في إبدائه»، وكما قال الإمام الشافعي رحمه الله «رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل ألصواب».
ومن هذا المنطلق أبدي بعض الملاحظات حول الانتخابات الأمريكية:
* الأولى، أن المرشحين دونالد ترامب وهيلاري كلينتون كانا مختلفين عن بعضهما في الخلفية والتأهيل العلمي والمعرفة بالسياسة الدولية. ومع ذلك سمح المجتمع والنظام السياسي بتنافسهما وبانتقاد كل منهما للآخر بشدة وبعبارات غير مسبوقة بل بانحياز بعض مؤسسات الدولة لمصلحة هذا الطرف أو ذاك.
* الثانية، أنه رغم تقدم استطلاعات الرأي في أمريكا فلأول مرة تقع في الخطأ، وكذلك المحللون والخبراء.
* الثالثة، إن من أسباب نجاح ترامب وإخفاق كلينتون وخطأ الاستطلاعات في تقديري هو تجاهل قطاعات معينة ممن يمكن وصفهم بالمهمشين في الريف الأمريكي وذوي الاتجاهات المحافظة، بل العمال الذين أوصلوا أوباما للسلطة في بنسلفانيا التي لم تشعر بأن الرئيس اهتم بها طوال فترة حكمه، لذلك تحولت من تأييد الحزب الديمقراطي إلى الحزب الجمهوري.
* الرابعة، أن المواطن الأمريكي العادي في الانتخابات بل في العمل السياسي الفعلي لا يهمه كثيراً قضايا السياسة الدولية المعقدة، بل يهمه قبل كل شيء أحواله المعيشية وقضاياه المحلية، لهذا نجد كثيراً من أعضاء الكونغرس لا يعرفون كثيراً عن أحوال العالم، ويفكرون بمنطق أن أمريكا هي العالم والصحافة الأمريكية التي لا تهتم كثيراً بالتدقيق في حضارات وثقافات الدول الأخرى، ولا بتطورها إلا إذا كانت القضايا لها آثارها عليهم أو تهم أقلية معينة في المجتمع معروفة بنفوذها في الإعلام والاقتصاد والسياسة.
* الخامسة، أن الثقافة الأمريكية الحقيقية ليست هي ثقافة المفكرين والعلماء ومراكز الأبحاث بل ثقافة المواطن العادي الذي يستخدم أحياناً عبارات تبدو غريبة في تعامله اليومي بطريقة لا شعورية يرفض المثقف استخدامها، وهي أقرب للغة رجل الشارع ولقد تفوق ترامب في استخدام تلك العبارات ليخاطب بها مشاعر الرجل العادي، ويقول له «إنني منكم ولست مثل السياسيين في واشنطن المنفصلين عنكم»، ولهذا تجاوب معه كثيرون.
* السادسة، أنه يهمني كعربي وكمسلم ثلاثة أمور، أولها، صورة العرب والمسلمين في أمريكا والعالم، وهذه بلغت الأسوأ في عهد الرئيسين بوش الابن وأوباما، فتحول العرب والمسلمون إلى «إرهابيين ومتطرفين» خاصة في أمريكا وأوروبا، ولكن يقع علينا بعض المسؤولية إذ يتباهى بعضنا بالإرهاب والقتل وما يسمى بـ«الجهاد» الذي لا يفهمون معناه جهلاً بالإسلام ومبادئه السمحة. والثاني، أننا نتوقع من الرئيس ترامب أن ينظر للعالم العربي والإسلامي وفقاً لصورته الحقيقية كما نتوقع منه أن يطبق ما يقوله. والثالث، نتوقع أن يحافظ على تصريحاته عقب الفوز «بانفتاحه على العالم والدول الأخرى على أساس استعداد تلك الدول بالسعي لأرضية مشتركة لمصلحة الجميع». وبناء على ذلك، ندعوه لعدم التدخل في شؤوننا الداخلية وعدم تصديق محترفي الاتجار بقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان الهاربين من أوطانهم، وأستشهد بمقولة الراحلة بينظير بوتو رئيسة وزراء باكستان السابقة التي قالت ذات يوم في مؤتمر ببلادها «إن هؤلاء الجبناء الذين يأتون إلي بلادنا ويتآمرون ضد دولهم وحكوماتهم لو كانت لديهم الشجاعة لعادوا لأوطانهم يقاومون الفساد والظلم بالأسلوب السلمي ويتحملون النتيجة بدخول السجن كما فعلت أنا ولا يهربون لباكستان ويمارسون الإرهاب والدمار ضد بلادهم أو العمالة للخارج». وأضافت «لقد ناضلت بأسلوب سلمي وبالعمل بين الجماهير وليس بتخريب البلاد والأوطان وتدميرها والعمالة للخارج مثل هؤلاء الجبناء».
وختاماً، نقول، لقد انخدع العرب والمسلمون بأمرين ذكرهما الرئيس أوباما في خطابه بجامعة القاهرة، أولهما وعده بالانفتاح على الدول العربية والإسلامية، والمحصلة هي تدمير التراث العربي والإسلامي وتقسيم كثير من البلاد العربية وإثارة الصراع الطائفي والعرقي فيها. وثانيهما، سعيه لتحسين صورة أمريكا لدى العرب والمسلمين، وهو يغادر البيت الأبيض فصورة أمريكا لديهم أسوأ مما كانت، ولذا نتمنى أن يفعل الرئيس ترامب عكس ذلك.

* باحث في الدراسات الاستراتيجية الدولية