قبل عدة أيام، عدتُ من رحلتي الأولى إلى تركيا حيث قضيت معظم الوقت في مدينة إسطنبول الجميلة. ومن محاسن الصدف أن هذا المقال يتزامن مع احتفالات الدولة الشقيقة بيومها الوطني. لقد لاحظت خلال زيارتي إلى اسطنبول بأن معظم شبكات القطارات داخل المدينة حديثة بما في ذلك خط قطار «مرمراي» الذي يسير تحت مضيق البوسفور، وهناك محطات عدة سيتم افتتاحها خلال الفترة المقبلة، من بينها محطة «سواديه» القريبة من شارع بغداد الشهير. وهناك أيضاً جسر السلطان سليم الأول الذي شارك حضرة صاحب الجلالة عاهل البلاد المفدى حفظه الله ورعاه، في افتتاحه خلال شهر أغسطس الماضي، وهو ثالث جسر يربط الجانبين الآسيوي والأوروبي لتركيا. والملفت للنظر هنا أنه تم إنشاء كل هذه الشبكات والمرافق دون المساس بالطابع الجمالي والتاريخي لاسطنبول، وهذا في نظري أعجوبة تستحق الثناء والتقدير. أنا لست بصدد تحليل العقلية السياسية والاستراتيجية لدى القادة الذين تعاقبوا على حكم تركيا بدءاً من السلاطين العثمانيين ومروراً بمصطفى كمال أتاتورك وانتهاء بساسة كبار مثل رجب طيب أردوغان وتورغوت أوزال وسليمان ديميريل، ولكن من المهم أن ندرك بأن هناك ثلاثة عوامل رئيسة «التاريخ والهوية والإنماء الثقافي والفكري» هي التي تشكل مصدر قوةٍ لكل دولة بغض النظر عن مساحتها ومواردها وعدد سكانها. والشخصية التاريخية هي التي تقلب الموازين وتغير المفاهيم. وبالرغم من زياراتي للمواقع التاريخية المهمة في اسطنبول والتمتع برونقها وجمالها، إلا أن الصرح الذي سأتحدث عنه هو الذي استوقفني وجعلني أقف متأملاً أمام حدثٍ غير مجرى التاريخ، وكان سبباً في انتشار الإسلام في أجزاءٍ متفرقة من أوروبا، حتى وصل بفضل الله إلى قلب تلك القارة. فقد زرتُ صرح «بانورما 1453» الذي يحاكي قصة فتح القسطنطينية على يد السلطان الشاب محمد الفاتح. وقد تفاجأت حينما علمت بأن محمد الفاتح كاد أن يوقف حصار القسطنطينية ويسحب قواته لولا الرسالة التي تلقاها من معلمه الشيخ محمد شمس الدين بن حمزة المعروف لدى الأتراك بـ «آق شمس الدين»، حيث عاتب الأخير بشدة تلميذه السلطان وحثه على المضي قدماً نحو فتح القسطنطينية. فمحمد الفاتح كان في الحادي والعشرين من عمره حينما فتح القسطنطينية، وكان يمتلك الطاقة الرهيبة والرؤية الثاقبة، وتحدى المستحيل وجابه الشكوك التي كانت تساورالكثيرين ومن بينهم وزيره حول تحقيق النصر المنتظر. أما آق شمس الدين فقد كان عالماً يحظى باحترام الجميع، وكان يتمتع بالخبرة ورجاحة العقل. وبالرغم من أن كل واحدٍ منهما يمثل جيلاً مختلفاً، إلا أن العلاقة بين الاثنين تعد نموذجاً فريداً للرابطة بين الماضي والمستقبل وبين الأساس والنماء. ففي كل عصر، تدرك أن هناك صراع خفي بين الجيل القائم والجيل السابق «إلا من رحم ربي»، حيث إن الجيل القائم يتهم الجيل السابق بالتخلف، أما الجيل السابق فيتهم الآخر بالتمرد. التخلف لم يكن أبداً مرتبطاً بعمرٍ أو زمنٍ معين، بل هو مرتبط بالعقل والسلوك. وهناك فرقٌ بين التمرد وبين أن يملك الإنسان روح التمرد. فالتمرد هو الخروج على كل ما هو حسن ٌأو منطقي بقصد إشاعة الفوضى، أما روح التمرد فهي جهاز باطني وروحاني يحرك الوجدان ويمنح القوة والثبات. والإنسان لا يمكنه أن يصل إلى الكمال، فالكمال لله وحده. ولا تبتئس من عدم معرفة الشيء أو عدم امتلاك المهارة، فالخلق جميعاً كالنسيج يكملون بعضهم بعضاً، ومن تغلبت عليه أنانيته فهو حتماً إنسانٌ ضال.