جردة الربح والخسارة، في معركة الرئاسة اللبنانية، لم تحن بعد، لكن مجموعة حقائق تطفو على سطح التطورات الأخيرة المتسارعة، وهي تستحق بالتأكيد قراءة متأنية.
الحقيقة الأولى، هي أن مبادرة الرئيس سعد الحريري الرئاسية شكلت منعطفاً حاسماً في اتجاهين: الأول الخروج من حالة الجمود التي تلامس الانتحار البطيء في النظام السياسي اللبناني، والثاني إخراج اتفاق الطائف من الغيبوبة التي طالت، وضخ دماء جديدة وزخم جديد في شرايين المؤسسات الدستورية اللبنانية بالرغم من أن العماد ميشال عون حليف «حزب الله» هو أحد أبرز رافضي اتفاق الطائف، فهل تغير الجنرال؟!
أبعد من ذلك، لقد قطعت المبادرة الطريق على الاجتهادات الداخلية والإقليمية التي ربطت بين تعطيل المؤسسات اللبنانية وتعطيل الصيغة الميثاقية، وأعادت الاعتبار إلى هذه الصيغة، التي صمدت في وجه كل التجارب، طوال المئة سنة الأخيرة.
الطائف اليوم بخير والميثاقية بخير، والكلام على «مؤتمر تأسيسي» أو نظام بديل صار من الماضي. بل إنه يمكن القول إن المرحلة الإنتقائية في تطبيق الطائف «في زمن الوصاية السورية» قد انتهت، والفترة المقبلة واعدة، وقد تشكل الإنطلاقة الحقيقية لاتفاق الطائف الذي توافق عليه اللبنانيون قبل أكثر من ربع قرن ولم ينفذ بعد وهذا متوقف على الرئيس ميشال عون.
في السياق إياه، يمكن القول إن الرئيس سعد الحريري الذي ورث عن والده رئاسة الحكومة، في ظروف استثنائية معروفة، وخرج من القصر الحكومي فيما يشبه الحركة الانقلابية، يعود اليوم ليدشن حقبة جديدة تغلب عليها الاستقلالية في الأداء الحكومي، بعدما أضاف إلى معادلة التوريث معادلة جديدة ذات بعد إنقاذي واضح للصيغة والنظام والوطن.
بكلام آخر، يمكن القول إن لبنان يدخل بثقة عملية مصالحة وطنية، يدشن معها بدايتين تاريخيتين: العودة إلى تطبيق الطائف بمحتواه الحقيقي لا الاستنسابي، والتأسيس لحريرية حقيقية على يد الحريري العائد. ومن الواضح أن رئيس الحكومة الجديد المبادر استطاع في أيام قليلة إرساء الدولة والصيغة على أسس صلبة، وتوظيف رصيده النيابي كزعيم أكبر كتلة متنوعة، في تعزيز حصانة لبنان الوطن، لا في تعزيز نفوذ أي طرف خارجي على حساب لبنان، ما يعني تفشيل الحسابات الرامية إلى تبديل الهوية اللبنانية ودور لبنان العربي.
وما لا يجادل فيه أحد هو أن سعد الحريري وضع تفاهمات «حزب الله» والتيار العوني على المحك، وأعاد النبض إلى مشروع الدولة إلى حد أن حسن نصرالله ، ولأول مرة بهذا الاعتراف الحاسم، أكد في نهاية المطاف، على أن الدولة وحدها هي الحل.. وكأنه يدفع عن نفسه التهمة القائلة – وعن حق – بأن هناك ميليشيا تسيطر على البلد بدعم خارجي، ومشروعها الأول والأخير إلغاء الدولة، على الطريقة «الحوثية الصالحية» هذه الميليشيا حليفة رئيس الجمهورية الجديد، أكرر هل تغير الجنرال؟!
تبقى حقيقة أخرى، وهي ليست الأخيرة، خلاصتها أن المملكة العريبة السعودية، التي لم تدر يوماً ظهرها للبنان، والتي برهنت طوال عقود على أنها الشقيق الأكبر في مساندته وتحصين استقراره الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والأمني والاستراتيجي، أوفدت إلى بيروت مسؤولاً معروفاً بصلابة مواقفه من مشاريع الإمبراطوريات الجديدة، كي يواكب عن قرب العبور اللبناني إلى العافية السياسية، ويكرس مرة أخرى التمسك بدستور الطائف، وموقع رئاسة الحكومة المتحرر من أي ارتهان خارجي. السعودية هنا وفية لنفسها ووفية للبنان، وهي تحرص على تحرير اتفاق الطائف من الالتواءات التي رافقت تطبيقه منذ ولادته، وتستعد لمد يد العون إلى المؤسسات الدستورية اللبنانية من دون شروط أو إملاءات، أو مساومات.
إضافة إلى مبادرة الحريري فإن موقف الرئيس نجيب ميقاتي لا يقل أهمية، بل على العكس الرئيس ميقاتي الذي يدعم أي مبادرة لإنقاذ الوطن مع تحفظه على انتخاب العماد عون لأسباب عديدة أبرزها مواقف عون من الطائفة السنية إضافة إلى تجربة ميقاتي الذي عانى الأمرين من الحريري وعون معاً، والتي وصلت إلى حد التخوين فجاءت هذه المبادرة بمثابة إعطاء براءة ذمة للرئيس ميقاتي ولا مبالغة إن قلت إنها بمثابة اعتذار من الرئيس الحريري للرئيس ميقاتي عن كل ما اتهم به ميقاتي أيام ترؤسه للحكومة، ويكفي الرئيس ميقاتي شرفاً أن الحكومة الجديدة سوف تعتمد فيما بينها صيغة حكومة ميقاتي كما سماها الحريري نفسه.
أما وزير العدل اللواء أشرف ريفي الوفي والمخلص لمبادئه ولشهداء «قوى 14 آذار» اختار منذ أن قدم استقالته من الحكومة أن يتجه إلى المعارضة وإصراره على التمسك بمبادئ «قوى 14 آذار» اياً كان الثمن.
أما التشرذم اللبناني الداخلي، على امتداد المحاور والاصطفافات الإقليمية، فهو مرشح لإعادة تشكل، تعلي مصلحة الصيغة الميثاقية والوطن على أي مصلحة أخرى، وهذا الأمر يتوقف أيضاً على الجنرال البرتقالي.