أجزم أن كثيرين ممن يهتمون بالشؤون السياسية الدولية تابعوا «المناظرة الثانية» بين مرشحة الحزب الديمقراطي هيلاري كلينتون ومنافسها مرشح الحزب الجمهوري دونالد ترامب يوم أمس.
17 مليون تغريدة بشأن المناظرة هذه أشعلت ساحة «تويتر»، تباينت فيها الآراء بشأن أداء هيلاري وترامب.
لو عدنا للمناظرة الأولى سنجد أن هناك شبه اتفاق على أن هيلاري تفوقت بجدارة على ترامب، رغم أن المدقق في الكلام سيلاحظ النسبة العالية من الدبلوماسية التي غلفت حديثها وخلت من الأرقام والنسب الهامة خاصة وأنها مازالت محسوبة على الإدارة الحالية، بينما ترامب هو أصلاً في وضع مريح كونه ليس بصاحب منصب مسؤول، بالتالي كانت انتقاداته واضحة ومباشرة وبالأرقام، وبان تفوقه واضحاً حينما تحدث عن الملفات الاقتصادية، وهذا أمر طبيعي لرجل أعمال وملياردير.
شبكة الـ «سي إن إن» أجرت استطلاعاً سريعاً بعد المناظرة الثانية بينت فيها أن هيلاري تفوقت بنسبة بسيطة عن ترامب، لكن مواقع إخبارية ثانية كشفت نسباً أخرى تبين أن المتابعين لم يعجبوا بأداء هيلاري كما كان في المناظرة الأولى.
كقراءة شخصية للمناظرة الثانية، وأجزم أن هناك من قد يتفق مع ما أقول، يتضح بأنها - وهي أقسى مناظرة بين مرشحين منذ عقود بحسب وصف الوسائل الإخبارية الأمريكية - يتضح بأنها كشفت عن «ضبابية» النتيجة بشأن حسم منصب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية.
إذ رغم أن المزاج العام يقول إن هيلاري تتفوق على ترامب ذي «الشخصية الجدلية»، إلا أن الملفات التي طرحها ترامب بشأن إدارة أوباما التي تحسب عليها هيلاري، وبشأن رده بقوة على هجومها عليه بشأن «التسجيلات» المسربة المعنية بتحرشه بالنساء، حين أثار مواضيع مرتبطة بفضائح جنسية لزوجها بيل كلينتون حينما كان رئيساً لأمريكا، كلها أمور واضح بأنها «هزت» هيلاري خلال المناظرة، ولو أنها حاولت قدر المستطاع المحافظة على رباطة جأشها والاستمرار بقوة في المناظرة.
لدينا شخصان أحدهما محسوب على إدارة أوباما، ويتحمل مع هذه الإدارة مسؤولية ملفات عديدة وهامة أثرت في الاقتصاد الأمريكي وكانت لها بصمات مؤثرة على الوضع العالمي، وآخر سهل عليه توجيه سهام النقد القوية، لكنه ذو أفكار متطرفة وشخصية لا يمكن التنبؤ بأفعالها وأقوالها.
بينما يتحدث ترامب عن الاقتصاد وخطأ شن الحرب على العراق، وغباء القرار الأمريكي الأوبامي بـ «التقارب الإيراني» ورفع الحظر عن مليارات خامنئي، تستعطف هيلاري الطبقات المتوسطة والفقيرة، تتحدث عن حقوق الأمريكان الأفارقة وذوي الأصول اللاتينية.
دائماً ما كان يقال لنا في دراستنا الجامعية، وبالأخص في المواد المعنية بالإعلام السياسي، إن «المناظرات الرئاسية» الأمريكية تعتبر مادة غنية لتدرس، خاصة وأنها تتضمن «فن الرد» و»التحمل» و»تحليل المضمون»، ومن تابع مناظرة الأمس يجد فيها «تكتيكات» صريحة مارسها المرشحان، بالأخص ترامب الذي نجح في حرف فضيحة التسجيلات وتحويلها لمادة يهاجم فيها هيلاري، والأخيرة لم تطل في استغلال الموضوع.
عموماً، بعيداً عمن تفوق أو كان أفضل أو من كان في وضعية أضعف، من يتابع هذه المناظرات سيجدها أداة مفيدة لمعرفة الأشخاص وسبر أغوارهم وتحليل شخصياتهم، والأهم مناقشتهم في برامجهم، وعدم قبوله بأي كلام يسوق عليه أو يمرر دون أن يناقش صاحبه ويقارعه بالحجة.
هذا الكلام يعيدني لمقال كتبته قبل عامين، وتحديداً خلال فترة الانتخابات النيابية، حينما كتبت هنا مشدداً على أهمية إقامة مناظرات شبيهة بين مرشحي الدوائر، تتم ليس بطريقة تطوعية وباتفاق بين المرشحين، إذ هذه الآلية حصلت في إحدى الدوائر ومع مرشحين بلديين، بل تقام وبترتيب من الجهة الرسمية المعنية بالانتخابات، إذ من خلالها نمنح المواطن فرصة لمتابعة مرشحي دائرته والمقارنة بينهم، ومتابعة «مناظراتهم» مع بعضهم البعض، والأهم توجيهه للأسئلة الهامة لهم ومناقشتهم في برامجهم الانتخابية، وطبعاً بأسلوب المناقشات القوية والجادة.
أمريكا التي تقول بأنها الدولة الديمقراطية الأولى تمنح شعبها فرصة التعرف على المرشحين لمناصب الرئاسة وغيرها، وهي ممارسة بغض النظر عما يحصل فيها، إلا أنها مادة تساعد المواطن وصاحب الصوت على التعرف أكثر على المرشحين والتيقن من أن صوته سيذهب في اتجاه صحيح، لا بمجرد الاعتماد على مطبوعات مزركشة فخمة تتضمن برنامجاً انتخابياً فيه من الوعود والكلام ما هو واقعي أو خرافي، ولا بالاعتماد على خيام فيها «بوفيهات» يومية تتضمن «ما لذ وطاب».