إن الإبداع هو نتاج الحضارة الإنسانية، والإرث الذي تتفاخر به الأمم، كل بما يذخر به، ويعد المبدع ثروة وطنية وكنزاً لأمته وعاملاً من عوامل نهضة مجتمعه، وتوجد أمم تعرف كيف تساعد المبدع كي يتطور ويتفرغ لثقل موهبته، وأمم تعلمت كيف تصنع المبدع، فكما قال العالم أحمد زويل رحمه الله «لا تختلف عنا الدول الغربية سوى أنها تظل وراء الفاشل حتى تدفعه للنجاح»، فما بالك بالمبدع؟ وأمم خارت قوى مبدعيها واندثرت إبداعاتها بل إن بعض الإبداعات انحسرت كعلم الفراسة وتتبع الأثر.
إن الحضارة الإنسانية نقلت عن الحضارة الإسلامية الكثير في علومها، فلولا نظام العد الثنائي الذي اخترعه العالم الخوارزمي مؤسس علم الجبر، لما كان هناك اختراع الحاسب الآلي، وهناك العديد من العلوم التي ازدهرت في عصور الخلافات الإسلامية المختلفة، والتي كانت آية نقلت عنها الأمم الأوروبية عن طريق الحضارة الأندلسية، مما جعلها تخرج من العصور الوسطى التي كانت مثالاً للظلام لكي تبني أوروبا الحديثة، مثل علوم الطب والرياضة والفن والرسم والنحت وغيرها من الفنون التي كانت دلالة على مقومات المبدعين العرب في ذلك الوقت الذين لم يخلُ فرع من فروع الإبداع إلا وستجد للعلماء العرب باع فيه.
لا تخلو أمة ولا مجتمع من المبدعين في شتى المجالات فنجد من بينهم، المبدعون في مجال الفن أو في مجالات العلوم المختلفة كالطب، وفن العمار، والفلك، وغيرها من المجالات التي لا حصر لها، ولكن المبدعين يختلف حالهم من بلد لآخر، ومن مجتمع إلى مجتمع، فلم يعد الإبداع حالة فردية تعتمد على الحظ، فكم من مبدع واراه الثرى دون أن ندري به. أما الدول التي تعلم قيمة العلم والإبداع فلديها منظومة تبحث عن المبدع داخل كياناتها وأحيانا تستقطبه من بلده وتمنحه جنسيتها كي تستفيد من إبداعه، فتعلم كيف تحولهم إلى مشاهير وتسوقهم، ونجد في النمسا مثالاً على ذلك، فتقديرهم للموسيقى ساهم في انتشار أعمال موزارت وجعلت فنه يتجاوز الحدود، فسموا باسمه الشوارع والمباني بل حتى أفخر أنواع الشوكولاتة، ونحت أشهر النحاتين بل أبدع المبدعين في فن النحت مجسمات له، تخلد إبداعه وتخلد ذكراه في شتى الأماكن، على عكس أمم أخرى لا تعلم قيمة المبدع، بل قد يحاربه البعض ربما غيرة منهم أو حسداً أو.... أياً كان من عوامل التخلف التي لا تساهم في تقدم المبدعين ومن ثم تقدم الأمة وذيع صيتها بين الأمم.
إن الأمم التي تعرف قيمة المبدع تساعده على عيش حياة كريمة تسهم في إبراز إبداعاته، على عكس بعض الأمم التي قد تحارب المبدع ولا تعلم قيمته أبداً حتى يوارى الثرى أو يشعرون به الا بعد موته، فكم من المبدعين تحولت إنجازاتهم لمكنونات الأدراج ثم تحولت إلى قمامة؟ والمحظوظ منهم من تحولت إبداعاته إلى موروث اكتشفه أحد الوارثين ثم اشتهر فنال التكريم والتقدير عندما أصبح جسده رفاتاً وتراباً فلا مجال ليستزيد الناس من إبداعاته.
وهناك بعض المجتمعات مشت قدماً لا بأس به في محاولة البحث عن المبدعين وثقل مواهبهم من خلال بعض البرامج ولكن يعيب على هذه البرامج أنها فقط تكتشف المبدعين دون تقديم الدعم الكامل لهم للوصول بهم إلى مصاف المشاهير، فليس لديها القدرة لامتهان كيفية صناعة مبدع فيجب أن نحول الإبداع إلى صناعة.
فالقضية تكمن في فن صناعة المشاهير، والترويج لها والاستفادة منها، وكذلك توثيق إنجازاتهم وحفظها في صفحات التاريخ، بشتى الوسائل لتتناقلها الأجيال، فما حفظ الإبداعات إلا لبنة في صرح الحضارات، فإن أرادت الأمة أن تبني حضارة فعليها بمبدعيها. وختاما أرثي كل مبدع غمره التراب وأهله يجهلون عطاؤه، وأواسي كل مبدع حاربه الحاسدون والرافضون للتغيير. وأقول لكل مبدع لا زال على قيد الحياة «لا يكفي أن تكون مبدعاً ولكن تحلى بالإصرار وتعلم فن الإقناع، واكتسب مهارة الترويج لإبداعاتك»، فليس التحدي في الإبداع فقط، بل التحدي أن تقنع الآخرين بإبداعاتك، واذكر شاعرنا إذ يقول:
قف دون رأيك في الحياة مجاهداً
إن الحياة عقيدة وجهاد