ما بين شواهد التاريخ ووقائع السياسة، تثبت إيران مرة تلو مرة أن الشيعة العرب بالنسبة لها ليسوا سوى كرة قدم يتم قذفها في أي اتجاه يناسب اللعبة الإيرانية البائسة، وبناء على المصالح الإيرانية وحدها، دون أدنى اعتبار لمصالح الشيعة العرب واهتماماتهم وحياتهم بل وحتى وجودهم.
فالاستراتيجية الإيرانية، منذ عهد الشاه عباس الصفوي الذي كان يحكم بصفته «الولي السلطان» وصولاً إلى الشاه علي خامنئي الذي يحكم بصفته «الولي الفقيه»، ومروراً بالقاجاريين والبهلويين بينهما، كانت ولاتزال قائمة على التشيع الصفوي الفارسي بمفهومه القومي الضيق البعيد كل البعد عن رحابة الإسلام وأخلاق الأئمة. وكل ما تلا ذلك من علاقات ومحاولات تأثير إيرانية إنما يقوم حصرياً على مبدأ التوسع الصفوي والحلم القديم باستعادة أمجاد الإمبراطورية الفارسية الكسروية التي حطمها العرب المسلمون، أتباع نفس الدين الذي يفترض أن حكام إيران من الملالي يدينون به.
لذلك يخطئ أيما خطأ من يعتقد أن اهتمام إيران بالشيعة العرب، أو الشيعة الهزارى في أفغانستان، سببه رغبتهم في رعاية مصالح الشيعة هنا وهناك، لأن الواقع أن الهدف الإيراني لا يتعدى استخدام الشيعة لتحقيق الحلم الكسروي البائس. ولكي نفهم هذه اللعبة دعونا نتذكر بعض الحقائق البسيطة، فاهتمام إيران في باكستان، مثلاً، تركز على شق الطائفة الشيعية ومحاربة كل رجال الدين وعلماء المذهب الذين تخرجوا من مدرسة النجف، بل ووصل الأمر إلى حد ابتزاز بعض المرجعيات وفبركة صور مخلة لهم من قبل عملاء إيرانيين لإجبارهم على أتباع مدرسة قم، فهل هذا سلوك الحريص على الطائفة المهتم برعاية أحوالها ومصالحها؟ لا والله. وقد وصلت الحرب المعلنة في باكستان إلى حد إجبار بعض المراجع الدينية على تغيير ألقابهم من «نجفي» نسبة للنجف إلى «نقفي» أو «نقوي» إبعاداً لها عن التسمية العربية حتى لا يربط البسطاء بين علمائهم ومرجعيات النجف ولو بالاسم.
النموذج الثاني، هو نموذج جمهورية أذربيجان، المستقلة، حيث تخوض إيران حرباً صامتة ضدها وصلت لحد تأييد أرمينيا في النزاع المسلح بين الجارتين، هذا مع العلم أن نحو 90% من أهل أذربيجان هم شيعة إمامية اثنا عشرية، أي أنهم من نفس طائفة ومذهب حكام إيران، بما في ذلك الرئيس إلهام علييف. ولكن أذربيجان المستقلة شوكة صامتة وموجعة في خاصرة إيران، لأن مجرد كونها مستقلة يعني إذكاء الروح الوطنية، لدى سكان ومواطني أذربيجان الجنوبية المحتلة، من قبل إيران، والذين يعانون الأمرين، رغم كونهم هم أيضاً شيعة إمامية اثنا عشرية، ولكنهم أذريون وليسوا فرساً.
النموذج الثالث، هو دول وسط آسيا المجاورة لإيران شمالاً، مثل تركمانستان وبعض أجزاء أفغانستان، وصولاً إلى قرغيزستان وطاجيكستان، حيث تقوم الخطة الإيرانية على التفريس ونشر اللغة والثقافة الفارسيتين، وتشجيع بعض المكونات الاجتماعية على إحياء جذورهم الفارسية البعيدة، بدون أدنى اهتمام للبعد الديني لأنه لا يخدم الغرض المنشود في هذه الدول مقابل البعد القومي.
لكن لماذا نقول هذا الكلام كله؟ لأن المؤامرة الإيرانية على الشيعة العرب مستمرة على نفس المنهج والمنوال ولخدمة نفس الأغراض الدنيئة، سواء في الخليج أو العراق أو لبنان أو غيرها. ومن يتابع تطور علاقة إيران بالتجمعات الشيعية العربية في أكثر من بلد، يستطيع أن يلحظ بشكل مباشر مجموعة من الخطوط العريضة التي تشكل حبكة هذه المؤامرة.
فأولاً، سعت إيران دائماً إلى عزل الشيعة العرب عن دولهم وتحريضهم عليها تحت حجج وعناوين مختلفة وصلت في المحصلة إلى تحويلهم لعامل لإثارة القلاقل وزعزعة الاستقرار وجعلتهم موضع شك وريبة من دولهم، بينما أصبحوا هم ينظرون، دون وعي إلى إيران وكأنها المنقذ الموهوم.
ولمن لا يفهمون هذه النقطة أنصح بمقارنة الأوضاع المعيشية والحقوقية والديمقراطية للشيعة في البحرين قبل المؤامرة الإيرانية بأوضاع الشيعة «الاثني عشرية، وليس العلويين» في سوريا المحرومين من أبسط الحقوق الديمقراطية والقانونية مثل بقية المواطنين السوريين، ومع ذلك وجدنا التحريض ضد الدولة في البحرين مقابل الإغراء من قبل إيران للشيعة السوريين للعمل مع الدولة هناك.
ولكي تكتمل الصورة، انتقلوا شمالاً إلى تركيا حيث يوجد ما يصل إلى عشرين مليون علوي عربي، وهناك نجد أن اللعبة الإيرانية تعمل بلا كلل ولا ملل لتحريضهم مذهبياً ضد الأكثرية السنية تحت شعار أن العلويين هم في الأصل اثنا عشرية مع العلم أن علويي تركيا يتمتعون بكامل حقوقهم القانونية والدستورية بما في ذلك مواقع نفوذ مريحة سياسياً وعسكرياً وأمنياً واقتصادياً، ولكن يد الخبث الإيرانية لا يهمها ذلك. ويكفي أن نشير هنا إلى أن كل لعبة الدولة العلوية التي يتم الطنطنة بها كحل تقسيمي للأزمة السورية هدفها الفعلي هو هؤلاء الـ20 مليون علوي في تركيا وليس العدد الضئيل الموجود في سوريا.
أما ثانياً، وعلى الصعيد الشعبي، فقد عملت إيران بشكل دؤوب ومتواصل على عزل الشيعي العربي عن محيطه السني من خلال لعبة دعاية تركز على التحريض المجتمعي وصناعة مظلومية وهمية بل واختراع منظومة حقوق خاصة بالشيعي وحده دون بقية المجتمع، لكن هذا في واقع الأمر لا يعتمد على كونك شيعياً، وإنما يعتمد على مدى ولائك لإيران وتعاونك مع مخططاتها. ومن يدرس محاولات إيران الدؤوبة لزعزعة استقرار المملكة العربية السعودية الشقيقة يستطيع أن يلحظ ذلك بوضوح إذا قارن كيفية تعامل إيران مع شيعة القطيف، حيث توجد نسبة أعلى من المتعاونين مع إيران، مقارنة بتعاملها مع شيعة المدينة أو إسماعيلية الجنوب مثلاً، هذا مع العلم أنهم جميعاً يحظون بنفس الحقوق التي تضمنها المملكة لجميع مواطنيها، لكن مرة أخرى نقول إنها يد الخبث الإيرانية قطعها الله.
وثالثاً، نضيف أن إيران في سبيل تحقيق غاياتها الدنيئة لا تهتم في الواقع بأرواح الشيعة العرب ولا بسلامتهم، فعداك عما لاقاه أسرى الجيش العراقي السابق من الشيعة من عذاب ومهانة وتحويل بعضهم لخونة متآمرين على بلدهم في ثمانينات القرن الماضي، أشير هنا إلى ما أثبتته جهات عديدة من بينها استخبارات الجيش الأمريكي عن مسؤولية إيران التنفيذية المباشرة عن أبرز المجازر الجماعية التي تعرض لها الشيعة العرب في العراق بعد عام 2003 ومن أبرزها مجرزة جسر الأئمة في الأعظمية وتفجير مرقد الأمامين في سامراء وعشرات الجرائم المشابهة التي يضيق المجال عن حصرها، بل إن هنالك من يتحدث وبالأدلة عن دور مهم لعملاء إيرانيين في المجزرة التي ارتكبتها عصابة «داعش» الظلامية الإرهابية في معسكر سبايكر عام 2014 وراح ضحيتها نحو 1700 مجند كلهم من الشيعة. وكل ذلك لتحقيق هدف أساسي هو تحريض الشيعي العادي مذهبياً وحقنه طائفياً بحيث تصبح إيران الملجأ الموهوم للدفاع عنه وحمايته من أخطار هي في كثير من الأحيان من يقف وراءها.
إن إيران أيها السادة هي العدو المنهجي للشيعة العرب، وليس دولهم ولا مجتمعاتهم التي احتضنتهم بأخوة وسلام طيلة قرون من الزمن، وهذه حقيقة ربما تغيب اليوم في ظلال التصعيد الطائفي الممنهج، ولكن التاريخ لا يرحم الغافلين عن قراءته قراءة واعية.
ولمن ينسى، أذكركم بمقولة أحد قادة الحرس الثوري الإيراني: إن الإنجاز الحقيقي لإيران في العراق ليس إسقاط صدام حسين، وإنما إسقاط إياد علاوي، وتذكروا أن الدكتور علاوي... شيعي عربي!