نرى أنه وإن كان تطبيق قانون أجنبي على العقد لا يعرف التفرقة بين العقد الإداري والعقد المدني؛ سوف يجعلنا نكون أمام عقد مدني تتلاشى فيه سلطات وامتيازات جهة الإدارة أو الدولة، إلا أن هذا الأمر أصبح واقعاً لا مفر منه. فلم تعد الدولة اليوم كما كانت في السابق تفرض سلطاتها وجبروتها على المتعاقد معها وتصل لدرجة التعسف في استعمال حقوقها تجاهه.
إن حاجة بعض الدول -النامية على وجه الخصوص- للاستثمارات وتشجيعها لتلقي رؤوس الأموال الأجنبية ومساعدتها لها في برامج التنمية والتطوير، جعلتها تسلم أكثر لمبدأ سلطان الإرادة عوضاً عن مبدأ السلطة العامة الذي كان سائداً سابقاً، بل حتى في بعض الأوقات يكون المتعاقد مع الدولة في موقف أقوى من موقف الدولة ذاتها، حينما يصر على تضمين العقد المبرم بينه وبين الدولة شرط التحكيم وشرط القانون الواجب التطبيق وشرط الثبات والثبات التشريعي مجتمعة. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى، فإن مبدأ حسن النية يجب أن يسود في كافة تعاقدات جهات الإدارة، كون المتعاقد معها بمثابة معاون لها في عملية تسيير المرفق العام بانتظام وباطراد، فليس من المستساغ أن تقدم جهة الإدارة دائماً الاحتمالات السيئة على حساب حسن النية والاحتمالات الإيجابية التي تصدر من المتعاقد معها.
ومن ناحية ثالثة، فإن بعض الضمانات المقررة في مبادئ القانون الخاص تشمل طرفي التعاقد، فتستطيع جهة الإدارة أو الدولة ضمان حقوقها من خلال هذه الضمانات مثل ضمانة فسخ العقد عند إخلال المتعاقد معها بالالتزامات المترتبة عليه بحلول أجلها بعد إعذاره وإن كان في هذه الحالة يستطيع المتعاقد مع الإدارة أن يدفع بعدم التنفيذ، وعليه فإن التزام الإدارة أو الدولة بالتزاماتها وعلى الأخص دفع مستحقات المتعاقد معها وفق مواعيد استحقاقها المنصوص عليها في العقد لا يترك مجالاً إذن لدفع المتعاقد معها بمبدأ عدم التنفيذ.
وأخيراً لا نتفق مع ما ذهب إليه بعض الفقه من ضرورة أن تتمسك الإدارة بسلطاتها وامتيازاتها في عقودها، وأن لا تخشى عزوف الشركات الكبرى من التعاقد معها نتيجة تلك السلطات والامتيازات، بسبب انفتاح الحدود في عصرنا الحاضر أمام الشركات العاملة في مختلف القطاعات، وقيام منافسة شرسة بين تلك الشركات، وبالتالي فإن الحصول على البديل أصبح أمراً سهلاً.
ونرى أنه إذا كان ذلك ممكناً في السابق، فإنه في عصرنا الحاضر ونتيجة لظهور عدة عقود جديدة مرتبطة ببعضها ومتشعبة في الالتزامات والحقوق، وارتفاع قيمتها وطول مدة تنفيذها، صارت الشركات العالمية تتعاون فيما بينها على ضمان حقوقها خاصة عند تعاقدها مع بعض الدول النامية ومعرفتها بمدى حاجة هذه الدول لخدماتها المختلفة، فتكاد تتفق فيما بينها على وجود الحد المناسب من الضمانات التي تحرص جميعها على تضمينها عقودها مع تلك الدول، وبالتالي فإن فرص الحصول على الشركات البديلة التي تقبل بامتيازات وسلطات جهة الإدارة أو الدولة سوف تتضاءل بل وستضمحل في المستقبل القريب. الأمر الذي سيجعل تلك الدول تقبل بالشروط التي يمليها عليها المتعاقد الأجنبي ضماناً لحقوقه خاصة بالنسبة للعقود عالية التكلفة التي يتحملها هو مثل عقود امتياز أو استغلال المرافق العامة أو عقود الأشغال العامة أو عقود الشراكة أو عقود استغلال الثروات الطبيعية. فأغلب هذه العقود يتم تمويلها من قبل شركات الاستثمار الكبرى على أمل استرجاع تكلفتها ونسبة معقولة من الفائدة عليها خلال مدة العقد التي قد تصل إلى أكثر من 50 سنة.
فلا يمكن التسليم بفرض سلطات وامتيازات الإدارة أو الدولة في هذه العقود على الرغم من أنها لم تساهم مالياً فيها، بل على العكس من ذلك يتوجب توفير الضمانات اللازمة للمستثمر في هذه الحالة، تشجيعاً له على أداء عمله على أكمل وجه وبأمانة، وتشجيعاً لغيره أيضاً للدخول في مشاريع استثمارية تنموية أخرى. الأمر الذي يعود بالنفع والفائدة على الدولة بصفة عامة.
ناهيك عن أن الاعتبارات العملية والفنية التي تتطلبها التجارة الدولية، تؤدي إلى التقليل من أو اضمحلال فكرة التمسك بأساليب القانون العام، ذلك أن الدولة إذا ما أصرت على التمسك بسيادتها وسلطاتها العامة، فإنها تهدم علاقاتها التعاقدية مع الطرف الأجنبي، إضافة إلى ما تثيره من مشاكل سياسية بينها وبين دولة الطرف الأجنبي المتعاقد معها إذا ما لجأ هذا الأخير إلى دولته طالباً الحماية الدبلوماسية، وبالتالي فإن على الدولة أن تنزل لمستوى المتعاقد الخاص حتى تحافظ على تحقيق مصالحها، وعلى الأخص بالنسبة لتلك الدولة النامية أو طالبة الاستثمار.