كل يغني على ليلاه.. أما المواطن اللبناني فإن ما يغنيه في الليل مختلف تماماً عما ينشده في النهار وما يلحنه في أوقات الأزمات لا يتعارض أبداً بما يدندن به أوقات يكون مزاجه عامراً بشيشة بنكهة العنب أو التفاح.
لبنان هذا البلد الصغير مساحة، والكبير شأناً، كبير بطيبة أهله وناسه، متوهج بهموم شعبٍ رمى حموله على شطآن مزجت ألوان بحره السماوية بأكياس نفايات رمادية مجهولة أصحابها.. شعب استقبل الجار بكل محنه، إلى أن صار هو في الخارج والجار تربع داخل الدار.
ما يعنيني هو الشعب البسيط ولا يغريني بسرد حكايا حكامه المتحدين أو المتخاصمين، سواء من كان محلقاً كالنسور في فضاء سمائه أو من يرسل من داخل السراديب إشعاعات عنف وتطرف. لذا أحبذ فقط التحدث عن شعبه الذي يصف نفسه أنه «كتييير cool» بالرغم من سلسلة المآسي التي تمر عليه كل يوم منذ بدء تكوينه ومن كل المهالك التي يعيشها ويصحى وينام عليها.
حقيقةً، فإن تمكنت من شرح مساحته الجغرافية، أو طبيعته المناخية بكل انسيابية وبساطة ولكنك لا بد أن تقف مذهولاً بترتيب تركيبته السكانية حتى توزيعه الطائفي، ولو تأملت هذا البلد وشعبه عن قرب لرأيته معادلةً من الصعب حلها.. شفرةً لا يمكن ترجمتها.. وشكلاً هندسياً ضائعة به الزوايا ودائرة غير معروف قطرها ولكن شعاعها أينما حل.. شع، وكيفما رسا.. أعطى.. أناس مبتهجون مهما اعتلتهم المصائب ومهما ركبتهم الهموم.
شعب كل ما سألته: كيف الأحوال؟ يرد عليك مبتسماً.. «ولك شو طالع بالإيد!! خليها على الله ياعمي.. بس البلد ماشي صدقني وكل شي ماشي».
ويكفي أن تأخذ الجواب من راعي التاكسي الستيني عندما يحاججك قائلاً: «البلد من دون رئيس جمهورية... صح؟! بس ماشي».
الوضع يشبه الطرقات، فالكل يعرف مساره وكيف عليه أن يهرب من زحمة خانقة لا ريب من وجودها سواء بوجود الإشارات الضوئية أو عدمها، أو بوجود شرطي للسير والذي تسأل نفسك مراراً وتكراراً: هل مهمته تنظيم السير من دون تحيز أم أنه وجد خصيصاً للسماح لأصحابه وأهله وأصدقائه أو لصديقة قديمة أو حبيبة حالية، من أخذ الأولية بالعبور لترسم ابتسامة عريضة على محياها وكأنها حصلت على وسام الأرز الميمون؟!
لذا فبكل ما نذكره أو ما يمكن أن يقال أو يعرّف ليس بالمستغرب أن تجد جموع الناس التي تكون واقفة بمظاهرات تهتف بالصباح بـ «كلا.. وثم كلا ومن ثم 1000 كلا»... لأمور كثيرة ليس هناك داعٍ أن أذكرها من قاعدة أن «لكل امرئ شأن يغنيه»، فمن الطبيعي أن تلتقي بأحدهم أو مجموعة منهم بسهرة فنية مساء يرقصون، ويدبكون ويهتفون: «البلد ماشي.. والشغل ماشي والحكي ماشي.. ولا يهمك»!!