استرعى انتباهي كتاب للأكاديمي المخضرم الدكتور عبدالرؤوف سنو بعنوان «لبنان الطوائف»، والكتاب يرصد تاريخ الطائفية، الآفة التي تنهش بالكيان اللبناني منذ ما يناهز القرنين. ويشرح الكاتب كيف أن الطائفية المجتمعة التي ولدت نتيجة التفاوت الطبقي بين الطوائف ما لبثت أن تحولت إلى منظومة سياسية. فبعد نظام المتصرفية، وضعت الدول الكبرى نظاماً طائفياً في لبنان بحيث تحصل كل طائفة على نصيب من السلطة وفق حجمها الديموغرافي. وبموجب الميثاق الوطني في عام 1943، جرى التوافق بين الطائفتين المارونية والسنية على تقاسم السلطة بين الطوائف في مؤسسات الدولة الأولى، وفي باقي مؤسسات الدولة، وفق الحجم العددي لكل طائفة. كما يشرح الكاتب كيف أن الدستور اللبناني كرس الطائفية المجتمعية من خلال المادتين 9 و10، حيث حصلت كل طائفة على استقلاليتها في إدارة أحوالها الشخصية وشؤونها التربوية والدينية، وقد أفرز هذا النظام هويات خاصة عند الطوائف المختلفة. وبالرغم من أن المجتمع تعددي، فالتعددية جلبت معها اختلافاً في الرؤية حول هوية الوطن، فبينما المسلمون كانوا يطمحون إلى الوحدة مع سوريا تخوف المسيحيون من هذا الأمر، لما يمكن أن ينتج عنه من تذويب كيانهم كمسيحيين في بحر إسلامي. ويشرح الكاتب كيف أن كلاً من الطائفية المجتمعية والطائفية السياسية تتغذيان من بعضهما بعضاً، فعندما يعامل النظام السياسي الفرد على أساس أنه ابن طائفة معينة فهو يغذي شعور الأخير بالانتماء الطائفي على حساب الهوية الوطنية. كذلك يؤدي النظام السياسي الطائفي إلى إشعال الخلاف والحسد والضغائن بين طوائف المجتمع حول المناصب والمكاسب والمصالح. كما يظهر الكتاب كيف أن الطائفية السياسية التي أعطت أفضلية وصلاحيات للمسيحيين دفعت بالمسلمين للاستقواء بالفلسطينيين ضد هؤلاء. وقد قاد هذا الأمر إلى الحرب الأهلية التي عصفت بلبنان مدة 15 عاماً، وانتهت باتفاق الطائف الذي كان اتفاق مبدئياً أساسه التوزيع العادل بين الطوائف وإلى توزيع نسبة المقاعد النيابية مناصفة على أساس 6، و6 مكرراً، بعدما كانت النسبة 5 نواب مسلمين لكل 6 مسيحيين. وكان من المفترض أن يؤدي ذلك تدريجياً إلى إلغاء النظام الطائفي وإلى اعتماد سياسة الدولة المدنية على أن يستحدث مجلس شيوخ لتمثيل العائلات الروحية في لبنان. ولكن للأسف، اتفاق الطائف لم يطبق بشكل كامل وقد منع نظام الرئيس بشار الأسد من تطبيقه وذلك ليبقى النظام السوري متحكماً بلبنان. ويتطرق الكاتب إلى كيفية أن الدولة المدنية هي الحل لمشاكل الطائفية بحيث لا يتعامل القانون مع المواطن على أنه ابن طائفة معينة بل على أساس أنه ابن الوطن، وأن إلغاء الطائفية السياسية يجب أن يسبقه خطوات حثيثة لتبديد الاحتقان الطائفي من خلال إعطاء الطوائف ضمانات لحقوقها في الوطن. ومن هنا، ومن قراءة الكتاب الغزير بالمصادر وبسرد الوقائع لا يستطيع القارئ إلا أن يلاحظ المماهاة بين حالة لبنان والعراق. فالعراق تنهشه الطائفية التي لا يمكن تبديدها إلا باعتماد الدولة المدنية شرط أن يسبق ذلك ضمانات لمختلف الطوائف بالمشاركة الوطنية العادلة.