يعتبر التفاوت الاقتصادي ما بين الدول المتقدمة والنامية، والفجوة فيما بينهما من الموضوعات التي كانت، ومازالت، تمثل اهتمام المختصين، والمتابعين لأسباب ومحددات النمو الاقتصادي، والتنمية الاقتصادية.
إلا أن الموضوع الأكثر أهمية هو لماذا لم تتحول الدول النامية إلى متقدمة بعد الحرب العالمية الثانية، ولغاية الآن، باستثناء عدد قليل جداً تحولت إلى ما يسمى بالدول المصنعة حديثاً. علماً بأن التقدم يشير إلى عوامل مركبة منها، ضمن اعتبارات عديدة، الوصول إلى اقتصاد متنوع قطاعياً، على المستوى المحلي، وتصديرياً، على المستوى الخارجي. ومنها أيضاً ارتفاع مساهمة التطور التكنولوجي في النمو الاقتصادي، بالإضافة إلى انخفاض ظاهرة الفقر، وتطور النظم الاجتماعية لرعاية العاطلين، وقطاع صناعي تحويلي متطور يوفر أغلب الاحتياجات من السلع النهائية والوسيطة.
حاول أحد المؤرخين الاقتصاديين من جامعة هارفارد، ديفيد لاندز، في كتابه «ثروة وفقر الأمم: لماذا البعض بهذا الثراء، والبعض الآخر بهذا الفقر؟» والصادر عام 1998، حاول أن يعزي الأسباب إلى 3 مجموعات من العوامل: أولاً: العوامل الجغرافية البيئية، والثانية: الاقتدار التكنولوجي، والثالثة: العوامل الاجتماعية والسياسية. علماً بأن عالم الاجتماع العربي «ابن خلدون» كان قد أورد أهمية العوامل الجغرافية والبيئية عام 1377، وفي مقدمته الشهيرة.
بالإضافة إلى إسهامات المؤرخ الاقتصادي «لاندز»، شهدت الدراسات النظرية التطبيقية العديد من الأسباب لتفسير ظاهرة عدم تحول الدول النامية إلى متقدمة. فهناك، أولاً، على المستوى الاقتصادي، السبب القائل بأن الأمر يعود لفشل السياسات الاقتصادية المطبّقة، وأن التقدم والفشل يرتبط بنجاح أو فشل السياسات. ويرتبط هذا التفسير بالمنهجية المتبعة من قبل النظرية الاقتصادية النيوكلاسيكية، والتي تتبنى أغلب أفكارها مؤسسات التمويل الدولية.
وفي المقابل هناك من يرى بأن المشكلة هي ليست مشكلة سياسات، رغم أهميتها، إنما المشكلة، أو المشاكل، مرتبطة بقيود هيكلية، بأسواق الإنتاج القطاعي، وأسواق العمل، والقطاع الخارجي، والمؤسسات، وغيرها.
وتتجسد مجموعة الأسباب الثانية في سيادة الدولة القوية أو التنموية في الدول المتقدمة، وسيادة الدولة الضعيفة أو الرخوة في الدول النامية كما أشار إلى ذلك عالم الاقتصاد السويدي جونار ميردال، الحائز على جائزة نوبل بالاقتصاد عام 1974 بكتابه الشهير، الصادر في سبعينات القرن الماضي، تحت عنوان «تحدي الفقر العالمي: ملخص برنامج عالمي ضد الفقر»، حيث تغيب صفة فرض القانون، والتدخل من خلال الأدوات التخطيطية الرشيدة لمعالجة فشل الأسواق، ومحاربة الفساد، وضمان توزيع مقبول اجتماعياً للدخل، وتوفير المؤسسات الملائمة للإدارة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وغيرها. يشار، ثالثاً، ضمن أسباب عدم التحوّل، إلى ضعف الإدارة الاقتصادية، التي هي بطبيعتها جزء لا يتجزأ من الإدارة العامة للدولة. ويتجسد هذا الضعف أفضل ما يتجسّد في الأخطاء في تحديد مراحل وتتابع خطوات الإصلاح الاقتصادي. فمن غير المستحسن، ومن غير المفضّل، إعتماد الإدارة الاقتصادية ومراحل الإصلاح، على مقولة البدء بمرحلة التحرير، محلياً وخارجياً، يضمن اقتصاداً تنافسياً لاحقاً.
فلا يقدم التاريخ الاقتصادي مثالاً لدولة متقدمة حالياً، نامية سابقاً، اعتمدت على تحرير التجارة «وما يرتبط بذلك من إلغاء للتعرفة الجمركية المرتبطة بحماية الصناعة والزراعية المحلية»، قبل أن تتيح بخلق قطاع زراعي، وصناعي تحويلي ضمن فترة من فترات الحماية الرشيدة «أي الهادفة إلى خلق سلع منافسة، وليس إلى خلق اقتصاد ريعي».
كما أن مرحلة بناء المؤسسات لا بد أن يسبق أو على الأقل يوازي، أي خطوات لتحرير الاقتصاد. كما أن من أخطاء الإدارة الاقتصادية هي التحيّز للتصنيع على حساب القطاع الزراعي ضمن التطبيق الخاطئ لسياسة إحلال الواردات التي اتبعتها أغلب، إن لم يكن جميع الدول المتقدمة والنامية، على حدٍّ سواء. بالإضافة إلى أخطاء أخرى عديدة في الإدارة الاقتصادية. رابعاً، ويشار أيضاً كأحد المعوقات لإنجاز التحول، إلى ضعف المؤسسات واستشراء الفساد. ويسري القول هنا على المؤسسات الرسمية، المتمثلة في الأعراف والتقاليد والعادات المحاربة للسلوك التنموي في الإدارة الاقتصادية. وعادةً ما يُطلق على المؤسسات بــ»قواعد اللعبة» والتي تحكم بدورها دور «اللاعبين» في الحياة الاقتصادية مثل المنظمات والوزارات والهيئات وغيرها، والتي تعمل في ظل منظومة من القوانين تجسد روح الدستور. وكلما كانت هذه المؤسسات متسقة مع المتطلبات التنموية قلت تكلفة إنجاز المعاملات، والعكس صحيح. خامساً، كما تندرج طبيعة النظم السياسية كأحد الأسباب وراء تسريع أو تباطئ التحوّل لدول متقدمة. فالقناعة السائدة بأن نظم الحكم الديموقراطية تساعد في عملية التحوّل، في حين تُعرقل النظم الدكتاتورية هذه العملية. إلا أن التجارب التاريخية غير متسقة في هذا المجال. فمن النادر وجود تجربة اقتصادية حولت بلد معين من «نامي» إلى «متقدم» اعتماداً على نفس النظام طيلة فترة التحول.
وشهدت أغلب الدول المتقدمة، والنامية على حدٍّ سواء نظماً تتفاوت في درجة ديمقراطيتها. إلا أن الثابت هو أن الحكم الديموقراطي أمر ضروري وملح لضمان الحرية الفردية والحرية السياسية. ولا يستحب هنا في الاسترسال بعرض العديد من العوامل الأخرى، التي عادةً ما يستشهد بها كأسباب لمنع مرحلة تحول الدول النامية إلى متقدمة، إلا أن ما يجب التأكيد عليه هو أن طبيعة هذه الأسباب هي ليست بالضرورة أسباب اقتصادية فقط، بل هي توليفة من الأسباب الاجتماعية، والثقافية، والسياسية، بالإضافة إلى الاقتصادية. وأن المجال الأفضل لتناول هذه الأسباب هو من خلال منهج متعدد التخصصات، وبالشكل الذي يؤدي إلى معالجة متعددة الأبعاد بهدف العمل على ضمان تطور ورفاه الدول النامية، ومنها الدول العربية.
باحث في العلوم الإدارية والمالية