الغفران السياسي من المصطلحات الجديدة التي غزت العلوم السياسية بعد تزايد الصراعات والنزاعات والثورات حول العالم منذ بداية العقد الحالي، وبدأ الباحثون التنظير حوله، وبحث أسبابه وعوامله وتأثيراته على النظام السياسي والمجتمع المحلي، وكذلك على مستوى العلاقات الإقليمية والدولية.
وتقوم فكرة الغفران السياسي على كيفية تجاوز المجتمعات أو الدول حالات الصراع والنزاع والخلاف الداخلي، ومدى قدرة مختلف الأطراف على تجاوز تداعيات ما حدث.
كبير الباحثين بمركز بليفر للعلوم والشؤون الدولية التابع لجامعة هارفارد ويندي شيرمان ـ وهي سفيرة أمريكية ـ نشرت قبل فترة دراسة بعنوان: «الغفران السياسي: بعض التأملات الأولية». وتعد الدراسة هامة في هذا المجال، حيث عرفت فيها الغفران السياسي بأنه «قدرة الدول أو الجماعات على التوفيق بين المواقف التاريخية والعداوات القديمة وديناميات التعاون بما يحقق مكاسب ومنافع لجميع الأطراف».
بحثت الباحثة الأمريكية عدة تجارب دولية في هذا المجال، ومنها ألمانيا واليابان وبعض الدول الأفريقية. وخرجت بخلاصات بارزة، ودعت الولايات المتحدة إلى تبني مفهوم الغفران السياسي ضمن مبادئ سياستها الخارجية.
فاقد الشيء لا يعطيه، فالولايات المتحدة لا يمكن أن تنتهج مبدأ الغفران السياسي في سياستها الخارجية لسبب بسيط أنها متورطة في العديد من الصراعات حول العالم، وسياستها قادت إلى فوضى مستقرة في الشرق الأوسط مثلاً.
وفي سياق تناول قضية الغفران السياسي، يحق لنا التساؤل عن جدوى الغفران السياسي في البحرين؟
شهدت البلاد أزمة حادة، ومحاولة انقلابية فاشلة، وصراعاً طائفياً مفتعلاً، وتدخلاً خارجياً قلل من قناعات الأفراد بضرورة التعايش، وزاد من رغبات التشفي والانتقام والتطرف والكراهية، كل هذا يحدث في مجتمع تعددي تأسس منذ قرون على الهجرات والانفتاح على الآخر بسبب اعتبارات الجغرافيا السياسية للبحرين.
الباحثون يعتبرون الغفران السياسي «آلية للقفز فوق المظالم التاريخية بشكل يحقق المصالح لأطراف الصراع»، وهناك أطراف تدعي المظلومية التاريخية، بل وتقتات عليها من أجل تحقيق مكاسب ومصالح ذاتية.
المشكلة ليست في المظلومية، ففي المجتمع التعددي المتعايش متى ما وقع ظلم على جماعة أو مكون، فإن المظلومية تقع على الجميع، وعلى الجميع أنفسهم العمل على إزالة مثل هذا الظلم.
المسألة إذن ليست مظلومية، بل المظلومية أداة تستغل سياسياً لضمان استمرار السيطرة على الجماهير بما يحقق المكاسب ويحافظ على المصالح الخاصة. هنا المشكلة، حيث يتم افتعال المظلومية، وبالتالي هي ليست حقيقية، وعليه لا يمكن تحقيق الغفران السياسي وتجاوز الإشكالات التاريخية إذا حرصت بعض الأطراف على التمسك بافتعال المظلوميات، وإن بقت عشرات السنين.
فكرة الغفران السياسي رغم إيجابيتها وعموميتها، قابلة للتحقيق في أي مجتمع، ومن بينها البحرين طبعاً، لكنها لن تكون قابلة للتطبيق إذا كانت هناك أطراف تفتعل المظلومات والأزمات المتتالية. فالغفران السياسي نفسه يقوم على تجاوز تلك الأزمات وعدم التفكير فيها بشكل جماعي يدرك فيه كل طرف مصلحته لتجاوز واقع سلبي، ويعمل الجميع من أجل تحقيق مصالح مشتركة تقدم على المصالح الخاصة. وهذا ما حدث في اليابان أو ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، عندما كانت دول مهزومة من حرب كونية، فلم تستغرق كثيراً في البكاء على مظلوميات من تلك الجماعات أو الدول، بل عملت على تجاوزها، ووقفت أمام كل من حاول ابتكار مظلوميات جديدة أو أزمات أخرى، فذلك البلدان لم يكن لدى شعوبهما وقتاً لذلك مقابل الاستغراق في البناء والتنمية. هذا ما تحتاجه البحرين، أن يكون هناك إجماع على أهمية المصالح المشتركة، بدلاً من المصالح الضيقة، وقبل ذلك محاربة من يحاول استغلال البحرينيين لتحقيق مآربه باسم الدين أو الطائفة أو المذهب أو الأيديولوجيا، فمصلحة البحرينيين واحدة، ولديهم القابلية للغفران السياسي بدرجة عالية، وإلا لم يكونوا يوماً ومازالوا شعباً متعدد الأعراق.